اخبار المغرب

صبيحة .. الجارية الباسكية التي حكمت الأندلس من قصر بيت الزهراء بقرطبة

يصف كثيرون صبح، أو صبيحة، اعتمادا على المصادر، بأنها أقوى النساء في التاريخ السياسي للأندلس. لم يقتصر الأمر على حكم صبيحة كملكة قرطبة الفعلية في أوج قوتها، بل كان لها أيضا تأثير دائم على الهياكل السياسية في الأندلس.

لفهم الدور السياسي الذي لعبته صبيحة خلال حكم الأسرة الأموية في الأندلس وشمال إفريقيا، من المهم أن ندرك السياق السياسي الذي انبثقت عنه ممارستها لنفوذها، بعدما تزوجت صبيحة من خليفة قرطبة، الحكم الثاني، الملقب بالمستنصر بالله، الذي اعتلى العرش في سنة 961 بعد وفاة والده القوي، الخليفة عبد الرحمن الثالث.

كرس عبد الرحمن الثالث عهده كرئيس للدولة لجعل الأندلس واحدة من أكثر دول الحقبة ازدهارا، وقد سار الحكم الثاني على خطى والده، إذ ركز جهوده كخليفة على الحفاظ على سلطته في المغرب لغرض حماية القوافل التجارية، وضمان حصوله على إمدادات الذهب من الممالك الإفريقية في السودان وغانا. وقد استفاد الحكم الثاني من جميع الموارد المتاحة لتشييد قرطبة كأهم مدينة في أوروبا. ومع ذلك، يجادل المؤرخون بأن نجاح الخليفة ربما كان ثقافيا أكثر منه سياسيا.

وبما أنه كان هو نفسه عالما، دعم الحكم الثاني الفنون والعلوم بسخاء، إذ حولت تبرعاته جامعة قرطبة إلى أشهر مؤسسة علمية في العالم، متجاوزة حتى جامعة الأزهر في القاهرة وجامعة النظامية في بغداد. قضى الخليفة معظم وقته في البحث في الكتب، وقد سمح حبه للمساعي العلمية في شؤون الدولة لصببحة بتولي مسؤوليات الخليفة الحكومية والشؤون العامة، إذ فاجأت صبيحة زوجها ورجال الدولة في حاشيته بمهارتها في ممارسة السلطة. فقد فوض الخليفة أكثر مسؤولياته إلى صبيحة، حتى أصبحت جارية الباسك، فجرية أو صبيحة، في نهاية المطاف القوة الحقيقية وراء الخلافة.

التقى الحكم الثاني بصبيحة لأول مرة بينما كان يتجول في حدائق قصره بيت الزهراء. لقد سحرته بصوتها الذي يحمل توقيعا لحنيا خاصا. فبعد أن اكتشف أن المغنية كانت جارية باسكية، اشترى الحكم الثاني المرأة وأطلق عليها اسم صبيحة باللغة العربية. فكلما قضى الخليفة وقتا أطول مع صبيحة، قلت رغبته في الابتعاد عنها. أظهرت المرأة معرفة قوية بالأدب والفن، وأشركت الخليفة في محادثات لطيفة، وكانت لديها أخلاق تتسم بالقبول. وعندما أنجبت صبيحة عبد الرحمن وهشام، مارست سلطة غير محدودة تقريبا على الخليفة.

يعتقد البعض أن ربيب الخليفة وصبيحة محمد بن أبي أمير، المعروف باسم المنصور (المنتصر)، انخرط في علاقة ثلاثية. وبغض النظر عن ذلك، بدأ ابن أبي أمير حياته المهنية ككاتب عام متواضع في مكتب قريب من القصر. استأجر الزوجان الملكيان ابن أبي أمير ككاتب شخصي لصبيحة، وعندما انسحب الحكم إلى مكتبته، أدارت صبيحة الشؤون العامة للمملكة بمساعدة عثمان بن جعفر المصفحي، حاجب الدولة (وزير الوزارات) وابن أبي أمير الذي كان يسجل أوامر صبيحة ويبلغها إلى مراكز مختلفة. سمحت رعاية صبيحة لابن أبي أمير بتسلق السلم الاجتماع، فأصبح في النهاية وزيرا، ثم حاجبا، وسيطر على صبيحة أخيرا ليصبح القوة الحقيقية وراء الخلافة.

تفوقت صبيحة بنجاح قبل وفاة السلطان في إحكام قبضتها على القواعد التي تنظم الخلافة الأموية التي تنص على منح السلطة إلى الرشيد (الأكبر سنا) – في هذه الحالة شقيق الحكم المغيرة – من خلال تسمية ابنها هشام، البالغ من العمر تسعة أو أحد عشر عاما، خليفة للحكم. بعبارة أخرى، عدلت صبيحة الهياكل السياسية للمجتمع الأندلسي من خلال تقديم فعل الوصاية. فلأول مرة في تاريخ الإسلام السياسي، أصبح قاصر خليفة بينما حرم الأكبر سنا في ترتيب العرش من السلطة.

بصفتها ولية أمر هشام، أصبحت صبيحة وصية عليه. لقد حكمت علنا وليس وراء الكواليس كما فعلت من قبل. تلقت صبيحة المساعدة من ربيبها بن أبي أمير، الوزير ثم الحاجب. لم تقصد صبيحة ولا ابن أبي أمير نقل السلطة إلى الوريث بمجرد انتهاء الوصاية، إذ شجعوا الشاب هشام على شغل نفسه بالتصوف الديني وأقنعوه بأنه من خلال مشاركته في شؤون الدولة، كان يخاطر بفقدان الاتصال بتأملاته الصوفية المقدسة. ومع ذلك، بدأت السلطة بالفعل في الانزلاق من أيدي صبيحة إلى أيدي ابن أبي أمير.

ظهر اسم ابن أبي أمير على العملة وغالبا ما كان يذكر أثناء صلاة الجمعة. مارست صبيحة نفوذا سياسيا في عصر بدت فيه السلطة ذكورية بشكل حصري، بينما ظل ابنها غائبا تماما عن المجال العام. ربما ليس من المستغرب أن يحترم أعضاء القصر الملكي ابن أبي أمير كرئيس للدولة، وقد عبر الناس في الشوارع عن حبهم لابن أبي أمير بدلا من صبيحة.

استخدمت صبيحة كل الأدوات تحت تصرفها لمعالجة هذا التهديد الوشيك لسلطتها. نبهت ابنها إلى الخطر الذي كان يواجهه، فشكلت صبيحة تحالفات مع شخصيات بارزة في القصر، فأرسلت مبعوثين إلى مناطق مختلفة من الأندلس وشمال إفريقيا لتحذيرهم من محاولة ابن أبي أمير السيطرة علئ الخلافة. تحالفت صبيحة مع زيري بن عطية، الوزير الأموي في المغرب الذي حشد رجاله للتمرد على ابن أبي أمير، لكن محاولات صبيحة بخصوص حماية سلطتها فشلت، وأثناء غيابها عن القصر، التقى ابن أبي أمير سرا مع الشاب هشام.

أقنع الحاجب ابن أبي أمير هشام بالتوقيع على وثيقة يعلن فيها بنفسه أنه غير قادر على الحكم، فاستولى على السلطة فورا، ولأول مرة في تاريخ الإسلام السياسي حكم حاجب بدلا من خليفة. فمن خلال إنشاء الوصاية، ساهمت صبيحة بشكل غير مباشر في نقل السلطة من الخلافة إلى الحجابة. أدى هذا النقل بعد ذلك إلى اختفاء الخلافة وانهيار الوحدة السياسية في الأندلس، وظهور عهد ملوك الطوائف (عهد ملوك المناطق الإسلامية الإسبانية).

تركت صبيحة السياسة وكرست حياتها لإكمال مشاريع البنية التحتية، إذ كلفت ببناء العديد من الجسور والآبار والملاجئ والمساجد والمستشفيات قبل وفاتها عام 999.