منوعات

مي زيادة ( جزء 2 )

أمل المشايخ  الأردن  خاص بـ "  "  (أظهرت ذكاء لامعاً أدهش معلماتها) ... بهذه الكلمات الحلوة التي تتناول العقل منها وصفت لنا (مي زيادة) عندما كنا في سنيّ الدراسة الأولى، كانت كذلك يوم كانت طالبة في مدرسة راهبات (عينطورة) في جبل لبنان بين غابات الأرز التي لطالما ذكرتها مي فيما كتبت. أكتب اليوم عن مى ليس فقط من واقع ما قرأت لها وعنها ؛ ولكن من داخل كاتبة، امرأة تدرك معنى أن تكون امرأة في مجتمع عربي  أو شرقي كما كان يحلو لمي أن تسميه وفي مجتمع ذكوري الكلمة والسيادة لا تكون إلا لرجل، وفي مجتمع لا يرى في المرأة إلا حرمة وفتنة النظر إليها سهم من سهام إبليس، وعلى الرغم من ذلك هو الزمن الجميل الذي كانت مى ريحانته وسط عمالقة عصرها.. .   وإذ غدونا كباراً وصفت لنا مي بصفات عذبة تتناول الروح منها هذه المرة فقالوا: إنها كانت تتحدث بثقة وعمق بينما سحابة من الهدوء تنتشر على وجهها الجميل. لعل المتحدث كان يقصد جلساتها في صالون الثلاثاء الذي أسهم في تطوير الحركة النقدية الحديثة؛ إذ كان ملتقى لأدباء العصر: طه حسين وعباس محمود العقاد وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي من عرب وأوروبيين. .. كثير منهم أغرموا بها، أما مي فقد أحبت العقاد في مطلع شبابها، ومن قرأ رواية (سارة) الرواية اليتيمة للعقاد  وأغلب الظن أنها تمثل الجانب العاطفي من حياته  سيتبين له أن العقاد عاش قصتين عاطفيتين في آن معاً: الأولى قصته مع مي زيادة التي يسميها في روايته (هند) التي افتتن بثقافتها ووداعتها وهدوئها، والثانية (هنومة) التي يسميها في روايته (سارة)، كانت سيدة مسلمة مطلقة افتتن العقاد بجمالها وشبابها وإقبالها على الحياة، اكتشف هو  بتحرياته  خيانتها أما مي فقد اكتشفت علاقته بالأخرى فجاءت إلى مكتبه يوماً من غير ميعاد أعادت له رسائله وأشياءه، وخرجت بصمت باكية وتركته حائراً لا يدري ماذا يفعل أو يقول.  ووصف العقاد الأحاديث التي كانت تدور في ندوة مي بقوله: لو جمعت هذه الأحاديث لتألفت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة " العقد الفريد " و " مكتبة الأغاني " في الثقافتين الأندلسية والعباسية. لعل الهوة بين مي والعفاد أنها  وإن لم تكن راهبة إلا أنها  كانت تحيا بقلب راهبة وروحها ينبئك عن ذلك بعض صفاتها التي تتبدى واضحة في رسائلها  فيما بعد  إلى الأديب والفنان المهجري جبران خليل جبران استمع إليها إذ تقول في واحدة من رسائلها: "ما معنى هذا الذي أكتبه؟؟ .... كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه! لا أدري. الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلاّ بعد أن تنسى."  هكذا كانت تبوح مي كانها تتلو اسفارا. مع العقاد صدمها رأيه بالحب، كما صدمها رأي جبران بالزواج فيما بعد... وبين هذا وذاك بقيت مي نموذجاً لمثقفة مثالية (أيديليزم) سيطبع حياتها ويشكل مأساتها إلى أن تموت وحيدة غريبة.

 أمل المشايخ الأردن خاص بـ ” ” 

لم تكن مي أماً ولكنها علمت النساء كيف يكن أمهات، استمع إليها تقول في واحد من مقالاتها معنفة الأم التي تهمل طفلها: ” سمعت الطفل يبكي فهلع قلبي فرقاً، أواه من بكاء الأطفال؛ إنه أشد إيلاماً من دموع الرجال .. سمعت الطفل يبكي فحملته، ورفعت عقارب شعره، وأجلسته على ركبتي التي لم يجلس عليها أخ أو أخت، فقال بصوت هادئ كأصوات الحكماء: ماما ماما” ، أظن أن الحياء منعها أن تقول ( أو ابناً ) لأن في ذلك تلويحاً أو تصريحاً أنها لم تتزوج، تلك المرأة الملهمة التي أدركت دور المراة فجاءت دعوتها مبكرة إلى تعليم المرأة إذ تقول في مقال آخر: ” يجب أن يبدأ بتعليم المرأة لأنها الأكثر جهلاً، يجب أن يبدأ بتعليم المرأة لأن الأمة لا تلد إلا عبيداً”.

كاتت مي فخورة بلغتها العربية؛ إذ استبدلت اسم مي الاسم العربي الأصيل باسمها الأصلي (ماري) تذكر مي نفسها أن أستاذ الجيل (أحمد لطفي السيد) أهداها نسخة من القرآن الكريم وتعترف مي وهي المسيحية أن قراءتها للقرآن أسهمت في تحسين أسلوبها وإكسابه تلك الحلاوة والعذوبة التي تغلفه.

دفعت مي ضريبة تميزها في مجتمع كانت المراة لا تكاد تحصل على قشور من العلم، تحدثت ست لغات وعاشت كأنْ لم يفهمها أحد، واجتمع في صالونها الأدبي عشرات الأدباء والمثقفين من كتاب عصرها لكنها ماتت وحيدة غريبة، ينبئك ذلك عن معاناة مي كامرأة في مجتمع لا يرى المرأة إلا (حرمة) يحرم جسدها ويحرم صوتها بل يحرم اسمها كل ذلك تحت لبوس الدين؛ فقد وقعت مي تحت أسماء مستعارة منها (خالد رأفت) و (إزيس كوبيا).

لقد شغل الدارسون بعشاق مي، من أحبها ومن أحبت، وليتهم شغلوا بتراثها الأدبي؛ إذن لجنينا الخير الكثير، ولما ضاع الكثير من تراثها، ولمّا يفصلنا عنها سوى سبعين عاماً، لكنها تركت رصيداً أدبياً يعد ثروة حقيقية تعكس قيمة هذه الأديبة الفريدة ، يقول الكاتب مارون عبود: “كل من رأى مي، وكل من شهد مجلسها أحبها، أما هي فظلت كسنديانة صامدة وكالجبل ما يهزه ريح ” .

لقد لقبوها بـ ( عروس الأدب النسائي ) الأمر الذي يلخص معاناة مي الحقيقية ؛ فنقاد عصرها يرون فيها الأنثى قبل الكاتبة، والجميلة قبل المبدعة، وعلى الرغم من سماء الحرية التي ظللت مي؛ فقد بقيت امرأة شرقية محافظة لم تخرج على تقاليد الشرق ، لكن الفجوة الكبيرة بين القلب والعقل، والحصار المخيف للمجتمع والتقاليد، والتمرد على كل أنماط الفكر التقليدي، كل ذلك عبرت عنه مي بمرارة لا تخفى في كثير مما كتبت وقالت في محاضراتها.

تجرّعت مي مرارة الفقد كؤوساً مترعة؛ إذ مات أبوها عام 1929 ، ومات جبران توأم نفسها عام 1931، وماتت أمها عام 1932؛ الأمر الذي أورثها حزنا عميقا وغربة لا يرتجى منها إياب ، وبذا فقد أفل نجم تلألأ في سماء الفكر والأدب، وانطوت صفحة لأديبة تعد مثالا للنبوغ والإبداع في زمن عزّ فيه الكتاب، أديبة تجرعت مرارة الفقد، وجفاء الأصدقاء، وظلم ذوي القربى الذين يصرون إلى اليوم على حجب بعض مؤلفاتها عن الدارسين!

” أتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني!” هكذا قالت مي يوماً أنكون فد انصفناها في هذه العجالة ليتنا نفعل.