اخبار المغرب

السويني يواكب الصفقات العمومية في رحلة البحث عن نص قانوني جامع وقوي

(ضرورة تحرير إبرام الصفقات العمومية من قبضة القانون التنظيمي للمالية .. 1/2)

يقول أستاذ القانون الإداري بالجامعة الفرنسية بيير سولير كوطو إن أقل ما ننتظره من نص قانوني، هو مدى قدرته على النجاح في رفع التحدي المتعلق بالإخبار عن موضوعه (نص لا يستثني ونص لا يحيل على نص آخر، أي نص جامع)، وكذلك قدرته على ترسيخ قوته القانونية (أي نص يسمو من المستوى التنظيمي إلى المستوى التشريعي).

المرسوم الجديد المتعلق بالصفقات العمومية وإن أبدع على المستوى الأفقي (تحديث النص وتجديده ولكن من داخل مربع السلطة التنظيمية)، إلا أنه عجز عن الإبداع على المستوى العمودي (المرتبط بمستوى ونوعية النص القانوني ضمن هرمية النصوص، من خلال الانتقال إلى المربع التشريعي)، ووجب التأكيد هنا أن ما كان يحتاجه مجال الشراء العمومي بإلحاح هو الارتقاء بالنص من المستوى التنظيمي إلى المستوى التشريعي، خصوصا وأن الارتقاء بالنص إلى المستوى التشريعي كان سيمكن المغرب من إخراج نص شمولي وجامع (عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص-عقود التدبير المفوض…) للطلبية العمومية، بدل نص للصفقات العمومية، كما أن الارتقاء العمودي بالنص كان سيعمل على الارتقاء بالمبادئ المنظمة للشراء العمومي من المستوى التنظيمي إلى المستوى التشريعي، مما كان سيعمل على منح قوة قانونية صلبة للشراء العمومي، وكان سيحسن بشكل كبير من مقروئية النص وجاذبيته الدولية والوطنية. وفي الأخير وجب التأكيد أن نصا شموليا ومقروءا بشكل جيد ويمتلك قوة قانونية تشريعية، كان سيعمل على تعزيز وإسناد استراتيجية الاستيقاظ الجيو-اقتصادي للمغرب التي ينشدها العقل المركزي للدولة.

إخراج نص قوي وجامع كان يتطلب الاعتراف في البداية بأن النص المتعلق بالشراء العمومي هو نص ينتمي إلى منظومة النصوص الصعبة والمعقدة، على اعتبار أنه نص يجمع مقتضيات دستورية وأخرى قانونية ومقتضيات تنظيمية، كما أنه نص فريد ومعقد، على اعتبار أنه نص يخص فروعا قانونية مختلفة ومتنوعة (القانون المدني-القانون الإداري-قانون الميزانية-القانون الجنائي-قانون الشغل…)، كما أنه نص يجمع القطاع العام والقطاع الخاص، وبالتالي نص يجمع جون جاك روسو (العقد الاجتماعي واليد المعلومة) وآدم سميت (اليد الخفية للسوق)، لهذا فهو نص يتطلب مجهودات جبارة تستوجب التعاون بين الأكاديميين والخبراء والمختصين وكذلك المنفذين والاختصاصيين في الأجرأة والتنزيل، وبالتالي يتطلب عملا جماعيا وأجندة خاصة واستثنائية لتعديله.

هذه الصعوبات كانت تتطلب عقلا يفكك الألغام ويبحث عن التناسق ويستطيع جمع النصوص المتنوعة والمتعلقة بالشراء العمومي في نص جامع وموحد يمهد الطريق القانونية للارتقاء بالنص المتعلق بالشراء العمومي من المستوى التنظيمي إلى المستوى التشريعي.

وكما قال الباحث في الشراء العمومي أستاذ القانون الإداري، الفرنسي ميشيل كيبا: “لقد كان المطلوب العمل على إخراج النص المتعلق بالشراء العمومي من مربع التواضع؛ التواضع المتعلق بالمستوى القانوني للنص (المرسوم بدل القانون)، والتواضع المتعلق بغياب النص الشمولي والجامع (النص المجزئ بدل النص الجامع)”.

الخروج من “مربع التواضع” والانتقال بالنص إلى “مربع الإبداع”، كان يتطلب الانخراط الكلي للعقل الأكاديمي والعقل التشريعي المغربي في معركة تحديث النص المتعلق بالشراء العمومي، خصوصا وأنه ليس من السهل القيام بتغيير جذري يخص الشراء العمومي دون القيام بقراءة في التأطير الدستوري للطلبية العمومية مع القيام كذلك بتحرير مجال إبرام الصفقات العمومية من قبضة القانون التنظيمي للمالية، لهذا كان مطلب إخراج نص قانوني قوي وجامع للشراء العمومي يحتاج إلى الحضور القوي للعقل الأكاديمي المغربي ليفكك البناءات غير الدستورية وغير القانونية وليعبد الطريق للنص للانتقال من المجال التنظيمي إلى المجال التشريعي ويسهر على فتح الطريق السيار أمام نص قانوني قوي وجامع للشراء العمومي.

العجز عن إخراج نص قانوني قوي وشامل كان يثبت أن معركة تحديث النص المتعلق بالشراء العمومي مازالت مفتوحة، وتتطلب بالتالي التفكير من جديد في رفع تحدي إعادة كتابة قانون للطلبية العمومية يرفع من خلاله المغرب تحدي تناسق التشريع المتعلق بالطلبية العمومية المغربي مع قانون الطلبية العمومية في التجارب العالمية، حتى تستطيع مدونة الطلبية العمومية المغربية أن تشكل إطارا نوعيا يقارع ويوازي، ولمَ لا يتفوق على باقي النصوص في أوروبا وفي العالم الأنجلو ساكسوني.

في التجربة الفرنسية (مثلا) قاد الحقل الجامعي والأكاديمي المختص في ميدان الطلبية العمومية معركة طويلة النفس (مع المشرع الدستوري والمشرع العادي)، استعمل فيها ثقافته ومعارفه القانونية من أجل تطويع اللغة الدستورية لجعلها لغة قادرة على فتح المجال لانتقال التشريع المتعلق بالطلبية العمومية من الحقل التنظيمي إلى الحقل التشريعي. الصراع النوعي الذي قاده العقل الجامعي الفرنسي جعله ينجح في إقناع العقل الدستوري الفرنسي، وخصوصا المجلس الدستوري الفرنسي، بمراجعة مجموعة من مسلماته المتعلقة بالشراء العمومي (ربط حرية التعاقد بالمصلحة العامة وبالمظلة الدستورية).

كما أن وضوح المعركة القانونية وقوتها النوعية جعلا عقل المجلس الدستوري الفرنسي ينخرط هو كذلك في معركة الاجتهاد من أجل تأصيل دستوري للمبادئ المؤطرة للطلبية العمومية، وبالتالي انضمام العقل الدستوري الفرنسي (المجلس الدستوري الفرنسي) إلى العقل الجامعي الفرنسي من أجل منح فرنسا نصا يملك قوة قانونية من خلال المسطرة التشريعية، ونصا جامعا يمتلك مقروئية كبيرة (النص المتعلق بالطلبية العمومية لسنة 2019).

أثبت العقل الجامعي الفرنسي، من خلال معركة البحث عن منح قوة قانونية للنص المتعلق بالطلبية العمومية، أنه عقل يشارك بقوة في صنع النصوص القانونية النوعية والقوية. لكن في المغرب أثبتت تجربة تحديث النص المتعلق بالصفقات العمومية أن العقل الحكومي والعقل الإداري ما زال هو القاطرة التي تتحكم في صياغة النص المتعلق بالصفقات العمومية، وأن العقل الجامعي في غالبيته ما زال عقلا تابعا للعقل الحكومي والعقل الإداري (خصوصا في ميدان الشراء العمومي)، ويكتفي بانتظار المصادقة على النص ونشره بالجريدة الرسمية من أجل فتح معركة تفسير وشرح النص والقيام بندوات قراءة النص أو على أبعد تقدير القيام بقراءات متقاطعة للنص المتعلق بالصفقات العمومية، مما يؤكد أن معركة إخراج نص قانوني قوي من خلال تعبيد الطريق للطلبية العمومية من أجل الانتقال إلى المربع التشريعي ونص جامع للطلبية العمومية سهل وواضح المقروئية ويملك جاذبية قوية، تتطلب عاجلا العمل على شحذ همم العقل الجامعي المغربي من أجل أن يحتل المكانة المخصصة له في التوضيح والتفسير وفك الألغام وكسب معركة العقول، مما سيمكن من تعبيد الطريق للعقل الحكومي والعقل الإداري للمشاركة بقوة مع العقل الجامعي في إخراج نص قانوني قوي وجذاب وشامل للطلبية العمومية.

العقل الجامعي المغربي ومعركة تحرير موضوع إبرام الصفقات العمومية من قبضة القانون التنظيمي للمالية:

أول معركة كانت تنتظر العقل الجامعي المغربي من أجل إخراج نص جامع وقوي متعلق بالطلبية العمومية، كانت هي معركة فك الارتباط بين القانون التنظيمي للمالية والصفقات العمومية، وبالتالي كان المطلوب من العقل الجامعي المغربي الانتصار في معركة تحرير النص المتعلق بالصفقات العمومية من قبضة العقل المالي التنظيمي (العقل المالي المسؤول عن الدستور المالي، الذي عمل على إدراجه في المادة الثامنة والستين من القانون التنظيمي للمالية)، وكذلك من قبضة العقل المالي التنفيذي الحكومي (منح اختصاص التشريع المتعلق بإبرام الصفقات العمومية إلى السلطة التنفيذية، من خلال عبارة تحدد بمرسوم).

الانتصار في معركة تحرير إبرام الصفقات العمومية من قبضة القانون التنظيمي للمالية كان يتطلب من العقل الجامعي المغربي فتح حوار أكاديمي علمي قانوني من أجل إقناع العقل التنظيمي المالي (المسؤول عن صياغة القانون التنظيمي للمالية) بأن إدراج إبرام الصفقات العمومية ضمن الدستور المالي لا يستند إلى أية مقتضيات دستورية، وبأنه مخالف لموضوع القانون المالي.

العقل الجامعي المغربي كان مطلوبا منه تذكير المشرع التنظيمي المغربي بأن الفصل 75 من الدستور ينص على أن “يصدر قانون المالية، الذي يودع بالأسبقية لدى مجلس النواب، بالتصويت من قبل البرلمان، وذلك طبق الشروط المنصوص عليها في قانون تنظيمي، ويحدد هذا القانون التنظيمي طبيعة المعلومات والوثائق والمعطيات الضرورية لتعزيز المناقشة البرلمانية حول مشروع قانون المالية…”.

تأكيد المشرع الدستوري في الفصل 75 من الدستور أن موضوع القانون التنظيمي للمالية لا يجب أن يتضمن إلا ما يتعلق بتحديد شروط التصويت وطبيعة المعلومات والوثائق والمعطيات، كان يعني أن كل ما يخرج عن ذلك ليس له طابع قانون تنظيمي للمالية (وإن كان لا يتعارض مع الدستور، وهنا يتضح الفرق بين تدخل عقل المحكمة الدستورية المقيد بثنائية مقتضيات ذات طبيعة تنظيمية ومقتضيات غير متعارضة مع الدستور ومقتضيات متعارضة مع الدستور، وتدخل العقل الجامعي المتحرر والمعتمد على ثنائية مقتضيات ذات طبيعة تنظيمية ومقتضيات ليست لها طبيعة تنظيمية، وبالتالي ضرورة التفريق بين موقف الأكاديمي وموقف المحكمة الدستورية).

الفصل 75 من الدستور يؤكد أن القانون التنظيمي للمالية يحدد طبيعة المعلومات والمعطيات الضرورية لتعزيز المناقشة البرلمانية حول القانون المالي، وبالتالي يطرح السؤال المتعلق بطبيعة موضوع القانون المالي المحدد من طرف المشرع التنظيمي. وفي هذا السياق، تنص المادة السادسة من القانون التنظيمي للمالية على أنه “لا يمكن أن تتضمن قوانين المالية إلا أحكاما تتعلق بالموارد والتكاليف أو تهدف إلى تحسين الشروط المتعلقة بتحصيل المداخيل وبمراقبة استعمال الأموال العمومية”.

تأكيد المادة السادسة من القانون التنظيمي للمالية على “مراقبة استعمال الأموال العمومية”، يعني أن قوانين المالية يمكنها أن تتضمن كل ما يتعلق بمراقبة استعمال الأموال العمومية (وهنا نستحضر النقاش القوي الذي جمع وزارة المالية والأمانة العامة الحكومة والمجلس الأعلى للحسابات حول التغيير الذي تعرضت له مدونة المحاكم المالية من خلال القوانين المالية لسنوات 2004 و2005 و2008، حيث ردت الأمانة العامة للحكومة ووزارة المالية على المجلس الأعلى للحسابات بأن الأمر يتعلق باختصاص موكول للقانون المالي حسب المادة السادسة (“مراقبة استعمال الأموال العمومية”) من الدستور المالي، بينما المجلس الأعلى للحسابات كان يرى أنها مقتضيات يجب إدراجها في مدونة المحاكم المالية.

إذا كانت المادة السادسة من الدستور المالي تؤكد أن القانون المالي يمكن أن يتضمن مقتضيات متعلقة بـ”مراقبة استعمال الأموال العمومية”، فهذا يعني أن القانون التنظيمي للمالية باعتباره مكملا للدستور يمكن أن يوزع سلطة مراقبة استعمال الأموال العمومية بين المشرع المالي من خلال القانون المالي، أو أن يفوض جزءا من هذه السلطة إلى السلطة التنظيمية.

بالعودة إلى المادة الثامنة والستين من القانون التنظيمي للمالية رقم 130-13، التي تنص على “تحدد بمرسوم يتخذ باقتراح من الوزير المكلف بالمالية جميع الأحكام التي من شأنها ضمان حسن تدبير المالية العامة، ولا سيما الأنظمة المتعلقة بالمحاسبة العمومية وبإبرام صفقات الدولة وبمراقبة نفقات الدولة”، كان على العقل الجامعي المغربي أن يتوقف طويلا أمام ما تنص عليه هذه المادة، هذا التوقف كان سيدفعه إلى تسجيل ملاحظتين جوهريتين، تتعلق الأولى بأن على المادة الثامنة والستين أن تحترم ما ورد في المادة السادسة، التي تؤكد فقط على “مراقبة استعمال الأموال العمومية” (باعتباره اختصاصا للقانون المالي) وليس “حسن تدبير المالية العامة”. أما الملاحظة الثانية، فإن النصوص المرتبطة بمراقبة استعمال الأموال العمومية (وخصوصا شرعية النفقة العمومية) هي النص المتعلق بالمحاسبة العمومية والنص المتعلق بمراقبة الالتزام بالنفقات لا غير، وأن إضافة النص المتعلق بإبرام الصفقات العمومية هي إضافة لا تستند إلى أي أساس قانوني.

المرسوم المتعلق بالمحاسبة العمومية والمرسوم المتعلق بمراقبة الالتزام بالنفقات، هما المرسومان اللذان يرتبط موضوعهما بالترخيص بالصرف وشروطه ومراحله الأربع (الالتزام-التصفية-الأمر بالأداء-الأداء). كما أن موضوع المرسومين يرتبط بـ”الترخيص بالصرف”، وبالتالي ينتمي للمجال المستقل لقانون الميزانية، باعتباره قانون ترخيص وقانون توقع، بينما المرسوم المتعلق بإبرام الصفقات العمومية يرتبط بـ”الترخيص بالتعاقد” وينتمي للمجال المستقل للقانون الإداري (الضبط الإداري-العقود الإدارية).

وهنا يطرح السؤال: لماذا لجأ المشرع التنظيمي للمالية إلى استعمال عبارة “حسن تدبير المالية العامة” بدل “مراقبة استعمال الأموال العمومية”؟ هل كان الهدف هو دمج مجال إبرام الصفقات العمومية ضمن قانون الميزانية (ونزعه بالتالي من القانون الإداري) والعمل بعد ذلك على دمج الترخيص بالتعاقد ضمن مجال “الترخيص بالصرف”، وبالتالي تقوية الجهاز التنفيذي من خلال توسيع الاختصاصات الممنوحة له من خلال قوة القانون التنظيمي للمالية؟

كيفما كان الهدف من وراء ذلك، فان العقل الأكاديمي المغربي كان عليه تنبيه المشرع التنظيمي إلى ضرورة احترام استقلالية القانون الإداري عن قانون الميزانية، وتذكيره كذلك بضرورة التفريق بين الترخيص بالصرف والترخيص بالتعاقد، وتذكيره كذلك بالفرق بين الالتزام القانوني والالتزام المحاسباتي، وتذكيره أيضا بأن مفهوم حسن استعمال الأموال العمومية المرتبط بقانون الميزانية والترخيص بالصرف، مختلف بشكل جوهري عن مفهوم حسن استعمال الأموال العمومية المرتبط بالقانون الإداري والترخيص بالتعاقد، وتذكيره في الأخير بأن المادة السادسة من الدستور المالي تخص “مراقبة استعمال الأموال العمومية”، وليس “حسن تدبير المالية العامة”.

*باحث في العلوم السياسية والمالية العمومية