اخبار المغرب

“ثورة الأيام الأربعة” للكاتب الجويطي.. رواية تناهض العنف والجهل والفوضى

عندما ننتهي من قراءة رواية “ثورة الأيام الأربعة ” للكاتب المغربي عبد الكريم الجويطي الصادرة عن المركز الثقافي العربي (383 صفحة من الحجم المتوسط)، نكتشف بأن الكاتب لم يحك لنا إلا عن يوم واحد من تلك الأيام الأربعة. وبالتالي أي قراءة أو تأويل لهذه الرواية، دون قراءة الأجزاء الأخرى التي لم تنشر بعد، ستظل قراءة مبتسرة وتأويلا ناقصا. لهذا لا بد من الإشارة، إلى أن قراءتي وفهمي وتأويلي سيقتصرون فقط على هذا الجزء. ولن أنتظر أو أستشرف أو أرجم بالغيب الأجزاء المتبقية. وكذلك لن ألوي للمعاني الواضحة في النص عنقها، لتساير معاني مفترضة في كتابة لاحقة، قد تأتي وقد لا تأتي. ثم إني أعتقد، أن كل النصوص الروائية، هي بشكل من الأشكال نصوص ناقصة ولن تكون أبدا مكتملة. وقد عبر غابرييل غارسيا ماركيز عن هذا، في أحد حواراته حين قال: “إننا لا ننتهي من كتابة، رواية وإنما نتخلص منها”.

فماذا حدث في اليوم الأول من “ثورة الأيام الأربعة”، التي لم تطلق فيها إلا رصاصات معدودات، ليعتبرها الكاتب حدثا مهما، ويتفرغ ربما، لسنوات طويلة من البحث المكتبي والميداني للكتابة عنها؟ مع العلم، أن الحدث الذي استند عليه الكاتب لتشييد معماره الروائي، أو ما عرف بأحداث مولاي بوعزة، التي وقعت في بداية السبعينيات من القرن الماضي، بتدبير من التنظيم السري لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبزعامة الفقيه البصري، بهدف الإطاحة بنظام الحسن الثاني وتأسيس نظام جمهوري، هو حدث معروف. وأسال مدادا كثيرا وكتبت حوله العديد من الكتب والمقالات وقدمت فيه العديد من الشهادات.

ما غاية الكاتب إذن، من العودة إلى حدث وقع قبل أكثر من نصف قرن، بهمة وعزم كبيرين، ليؤلف عنه رباعية روائية ضخمة؟ هل لأنه، كمهتم بتاريخ المغرب وتاريخ تادلة على وجه الخصوص حيث وقعت الواقعة، اكتشف خللا أو فراغا ما في الكتابة التي أرخت للحدث، فقرر بكل عدته وعتاده المعرفي والتخييلي، الاتكاء على الرواية، بما تتيحه من حرية في التعبير والهدم والبناء، لتصحيح ذلك الخلل وملء تلك البياضات؟ أم هي فقط، عودة لهذا الحدث، لاتخاذه مطية مشوقة، للحديث عن أشياء أخرى تم إغفالها في تاريخ المنطقة، يرى الكاتب أنها جديرة بالالتفات وتسليط الضوء عليها إبداعيا وتقديمها في قالب روائي جميل للعالمين؟ أم هي تصفية حسابات ثقافية وفكرية، مع مرحلة ثورية إيديولوجية لها سياقها التاريخي. مرحلة، كانت سببا في حدوث مآس سياسية واجتماعية كثيرة، وآثار وخيمة أعاقت لسنوات طويلة، تنمية البلد وتقدمه؟

وهل الشكل الفني والتقنيات المعتمدة في كتابة هذه الرواية وكذا اختيار الشخوص وأوصافهم والنعوت التي ألحقت بهم، وطريقة سرد الأحداث وبنائها، واختيار لغة شاعرية منتقاة كلماتها في كثير من الأحيان بعناية شديدة، كان مناسبا ومنسجما مع إنتاج خطاب روائي منطقي ومنسجم والقناعات التي تم دسها بذكاء في الحكايات. وتصريفها بدهاء، على لسان شخوص الرواية المتعددين؟ وهل يلامس القارئ، المطلع على ما جرى فعلا، تطابقا منطقيا وواقعيا في الأحداث المسرودة وتلك التي حدثت بالفعل. أم سيتعثر كثيرا باختلافات وتناقضات بينهما. وخصوصا من حيث الأحداث والشخوص والخطاب؟ وهل كتبت الرواية من أجل الانتصار لفكرة الثورة وأبطالها وإعادة الاعتبار لهم، كما فعلت بعض الكتابات والشهادات الأخرى، أم جاءت الرواية (كما قد يفهم البعض) كثورة مضادة لما جرى والتنكيل بأصحابها والنيل منهم ومن أعراضهم بشكل فظيع؟ ثم ما هي الخلاصة أو الانطباع العام الذي يمكن لقارئ متأن أن يخرج به من قراءة هذه الرواية؟

للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، سأركز على محورين أساسين: الواقعي في بناء رواية “ثورة الأيام الأربعة” (من جهة). والتخييل وهيمنة الخطاب الواحد فيها (من جهة ثانية).

أولا: الواقعي في البناء التخييلي للرواية

مهم جدا أن أشير إلى أنه من الصعب على القارئ العادي في قراءة عادية وعابرة، أن يميز في رواية الأيام الأربعة، بين ما حدث على أرض الواقع فعلا، وما تم دمجه في سيرورة السرد من أحداث متخيلة. وفي هذا الفصل، سأحاول التركيز فقط على ما جاء في الرواية من وقائع حدثت بالفعل. لأعود في الفصل الثاني، عند مقاربة خطاب الرواية إلى تسليط الضوء على المتخيل فيها.

تتضمن الرواية أربعة عناصر أساسية، نجدها هي نفسها في كتابات وشهادات أخرى متعددة، مثلا في”أبطال بلا مجد” للمهدي بنونة و”الثورة الموؤودة” لمحمد لومة و”ثورة لم تكتمل” لمحمد التوزاني ومقالات أخرى… إلخ) وهذه العناصر هي:

1- تاريخ الثورة ومكانها

تشير الرواية إلى تاريخ مضبوط وكذا إلى المنطقة التي انطلقت منها هذه الثورة، وهو التاريخ والمكان نفسيهما اللذين انطلق فيهما مجموعة من الثوار على أرض الواقع في ليلة الثالث من مارس 1973، في محاولة لقلب النظام الملكي في المغرب وتأسيس نظام جمهوري بديل. “في مغيب اليوم الثاني من مارس عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، صادف يوم جمعة، حوالي السادسة والنصف، بدأنا صعود الجبل… تجاه قمة تاصميت” (ص 12). والمكان كما يبدو، هو جبال الأطلس، منطقة تادلة بني ملال.

2- هوية الثوار

إن كان الكاتب قد أعطى للثوار في روايته ألقابا ونعوتا أخرى مموهة لهويتهم الحقيقية، على اعتبار أنهم شخوص روائية، إلا أنه أبقى على آخرين بصفاتهم وألقابهم أو أشار إلى قرائن وصفات تدل عليهم، كما هو الحال بالنسبة للفقيه البصري وآخرين معه، وكذا قائد المجموعة إبراهيم التزنيتي المعروف بعبد الله النمري، عضو سابق في هيئة أركان حرب جيش التحرير. يقول السارد “كلما ذهبت للمكتبة، تبدى لي التزنيتي صاحب سر، بل أسرار. وكل ما حوله مجرد ديكور لإخفاء حياة أخرى أكثر حركة وثراء” (ص 62).

3- خطأ في التنفيذ وسوء في التقدير

بسبب خطأ في التنسيق بين مجموعة من المسلحين متفرقين في عدة مناطق بالمغرب، للقيام بهجومات متزامنة يوم عيد العرش الثالث من مارس 1973، قامت فقط مجموعة واحدة بقيادة إبراهيم النمري (التزنيتي) بهجوم مولاي بوعزة، بينما كانت المجموعات الأخرى قد أجلت هجوماتها لمدة أسبوع. وكما نجد هذا مكتوبا في عدة مصادر، نجد الإشارة إليه في الرواية واضحة. يقول السارد منتقدا بسخرية ومرارة، طرق الاخبار السعودية بين قيادة الثورة ومنفذيها، التي أدت لخطأ فظيع عند التنفيذ: “ثورة تريد أن تنقل المغاربة نحو المستقبل، لكنها تستعمل أدوات القرون الوسطى، الرقاصة، الجفر والتوكل على الألطاف الإلهية، لا ينقصنا إلا الحمام الزاجل مع القيادة العليا للتنظيم في الجزائر” (ص 132).

4- مآل الثورة

مصير الثورة، سواء في الرواية أو في الواقع، كان هو الفشل الذريع. بعض الثوار قتل في مواجهة السلطات، وبعضهم ألقي عليه القبض وأعدم أو سجن. وبعضهم فر متسللا خارج المغرب إلى الجزائر. يقول أحد الثوار بيأس: “علينا أن نتفرق ويحاول كل واحد منا وبطريقته الخاصة، أن يتسلل إلى الجزائر، هذا هو الحل، الباقي جنون وانتحار” (ص 204).

يستخلص مما سبق، أن الكاتب استند في كتابة روايته، على أحداث ووقائع تاريخية حقيقية. لكن طبعا، بعد تفكير وبحث عميقين في تفاصيلها، واشتغال طويل على بنائها سرديا وتخييليا ولغويا، من أجل إنتاج خطاب روائي متين ومحبوك ينتصر لثورة ثقافية فكرية تحارب الأمية والجهل والعنف. خطاب، رغم ما يوحي به تعدد الأصوات ووجهات النظر المتباينة داخل الرواية، يظل خطابا واحدا، كأنه تعبير مباشر عن قناعات الكاتب ورؤيته ومواقفه مما حصل في تلك الثورة. “يا ثوار، لا يمكنكم أن تفعلوا أي شيء أمام كم السذاجة التي أراها، حاربوها أولا وسترون، لن تحتاجوا إلى إطلاق رصاصة واحدة. السذاجة عدوتي وعدوتكم”. (ص 236). فأين يتجلى هذا الخطاب تخييليا في “ثورة الأيام الأربعة”؟

ثانيا: التخييل وهيمنة الخطاب الواحد في الرواية

يعتبر الناقد والروائي محمد برادة، في أحد حواراته وهو يتحدث عن التخييل، “أن الواقع مهما كان معبدا وفسيحا، يبدو دائما ضيقا لا نقبل أن نعيش فيه، دائما نبحث عن نوافذ تقودنا إلى عالم فيه الكثير من المخيلة والتخييل، ليسعفنا أن نتابع الحياة… ومجرد أن نتحدث عن شيء من خلال التخييل، يجعل ذلك الشيء وإن كان مصدره الواقع، متحولا ومتخيلا”.

بهذا المعنى، حتى وإن ظهر بوضوح من القرائن التي تمت الإشارة إليها آنفا، أننا أمام أحداث تاريخية واقعية، فإن “ثورة الأيام الأربعة”، تبقى عملا تخييليا محضا أساسه اللغة والمخيلة. سواء من حيث البناء والشخوص، أو من حيث اللغة والخطاب. ذلك أن الكاتب لم يقم نسيج روايته على سدى الواقع وتصميمه، ولا على خطية زمنية كرونولوجية للأحداث، ولا استسلم لمنطق وفكر المشاركين في الثورة، كما حصل على أرض الواقع، وفرضه على شخوص الرواية وأبطالها. ولا تماثل طرحه للأشياء، مع جل تلك الأحداث وما قد يكون فرضه سياقها من موت ودماء وآلام وعذابات وضحايا بالجملة. بل كتب الرواية بجرأة تخييلية فظيعة، تقدم، خطابا ثقافيا فكريا ثوريا، يصل حد الاستخفاف والسخرية والتنكيل بتلك الثورة وبكل ما حصل فيها من تسرع وحماس زائد وسوء تنفيذ وتقدير وخسائر. “الثورة حين لا تكون حقيقية، عاصفة، خاسفة، ناسفة، تتحول الى تلقيح للمخزن ضد قوى التغيير لسنوات وعقود، يقضي على الطليعة الثورية في المجتمع ويعيد ترتيب نفسه” (ص 270).

وهذا التخييل، لخصه الكاتب نفسه، وهو يخاطب قارئه المفترض، بوعي كبير، على لسان سارده العالم بكل شيء: “ما أرويه هنا فيه إعادة صياغة، وفيه إضافة مني بكل تأكيد” (ص 108). ثم نجده يؤكد ذلك في الصفحة 112: “شيء ما بداخلي يقول لي، إن ما تراه غير واقعي، غير متماسك، فيه عناصر متنافرة: ثورة، جبل، ثكنة، سرمد، سلاح، جيب، تودا، جلابيب، فطور، مسدس، عناصر كثيرة تفتقد خيطا ناظما يعقلها..”.

عنوان الرواية نفسه “ثورة الأيام الأربعة”، كأحد عتبات النص الأساسية، يضمر استخفافا وسخرية واضحين من هذه الثورة المعلنة فيه. مما يدفع القارئ لطرح العديد من الأسئلة، بتعجب واندهاش كبيرين: هل فعلا تصرف الثوار على النحو الذي سرده علينا الكاتب في هذه الرواية؟ ثوار يصطحبون معهم سلحفاة ووسادة؟ ينشغلون في أول ليلة من ثورتهم، بإغلاق ماخور وتزويج الرجال المعتقلين داخله من فتياته؟

كيف وجدوا الوقت الكافي لسماع حكاية تودا، (قوادة الماخور) وتاريخها المجيد؟ وكيف سمحوا لزطاورو (محتال يوناني متشرد وأحد معتقلي الماخور) أن يكون له رأي في ثورتهم، وأن ينعت، بكل وقاحة، المغاربة بالسذاجة والغباء؟ وأي ثوار هؤلاء، وهم في طريقهم لإطلاق الشرارة الأولى لثورتهم، وجدوا الوقت والمزاج لتأمل خصائص البغال وأهميتها لسكان الجبال؟ وأن ينتقدوا معداتهم وأسلحتهم، التي يحملونها لمهاجمة النظام، ويصفونها بالخردة؟ وأن يجدوا الوقت الكافي لزيارة معرض صور بالجبل واستطلاع الرأي حوله؟ وأن يهتموا لحكايات نساء ينتظرن منذ سنوات على ربوة، عودة أبنائهن من حروب بعيدة؟ وأن تسعفهم اللحظة بأن ينبشوا في أصول ساكنة الجبل الذين أنهكتهم الحروب والهجرة والعداء التاريخي بينهم؟ وما هذا العبث، في أن يكون أحد الثوار، نجلا للرجل الذي لم ينجح في لعب دور صغير جدا في مسرحية، يخاطب فيها الفرنسيين بكلمتين كأنه دوغول، هو أحد القادة الذين سيطلق الشرارة الأولى للثورة ضد نظام الحسن الثاني؟ ثم ما معنى أن يقيم الثوار في يومهم الأول، محاكم تفتيش في الجبل ويفتحون تحقيقا مع باحثين أجنبيين، روزا الفرنسية وصامويل الأمريكي المقيمان في الجبل لأسباب بحثية؟

ثم لماذا أصلا، هذا الاستخفاف والاحتقار والتنكيل ولو تخييليا، بحدث تاريخي (اتفقنا أو اختلفنا معه) يظل قائما بما له وما عليه، وله سياقه والأسباب التي دفعت إليه؟

أعتقد أن ما جعل وقائع الرواية وعوالمها، تبدو على هذا النحو من العبث والفانتازيا أحيانا، هو الارتكاز المقصود والذكي من الكاتب على ثلاثة عناصر مهمة جدا لإنتاج خطاب مضاد لكل فكر ثوري، يمجد العنف غير المحسوب العواقب. وهي: شخصية السارد، أحداث توابع، أو حكايات سردية هامشية لا يربطها أي منطق بالحدث الأساس/ الثورة. ثم اللغة.

عبد الكريم الجويطي في “ثورة الأيام الأربعة”، لا يكتب رواية للمتعة والتسلية وإنما يخوض، بجدية كبيرة ووعي حاد، ثورة ثقافية فكرية، عبر مشروعه الروائي، ضد الجهل والعنف والحماس الزائد. وسأحاول في ما يلي، توضيح ذلك باقتضاب شديد:

1- شخصية السارد

كان التنظيم الثوري الذي قاد تلك الأحداث في بداية السبعينيات من القرن الماضي، يتكون من:

– القادة، (يحركون الأمور من مقراتهم الآمنة في الجزائر وليبيا).

– ذوي الخبرة العسكرية العالية (يقودون الثورة في مناطق متعددة من المغرب).

– أصحاب الخبرة القتالية المتوسطة وأصحاب التجربة الميدانية. (منفذين)

– منتمين للثورة (من داخل التنظيم، لكن لا خبرة قتالية لهم)

– سكان محليين (تورطوا أو زج بهم في تلك الأحداث).

ويبدو أن الكاتب، تعمد اختيار شخصية سارده من هذه الفئة الأخيرة، سارد غريب، يتلون كالماء، ينتقل كالريح، يتقوقع كسلحفاة، يتصرف كحثالة، يرتفع كجبل ويتحدث كرسول حكيم. وفي الآن نفسه، هو شخصية خبزية ضعيفة، مترددة، رعديدة، مغلوبة على أمرها، لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد لا بثورة ولا بفكر ثوري ولا خبرة لها لا في نضال ولا تنظيم ولا قتال ولا حمل سلاح. وإنما أستاذ بسيط من عامة الناس، زج به في فعل ثوري خطير لإطلاق شرارته الأولى. لكنه مع ذلك، سارد مواكب لجميع أحداث الرواية ومرافق لشخوصها. يعلم كل صغيرة وكبيرة عنهم، تاريخهم، بلدهم، مشاكلهم، أسرارهم وتطلعاتهم بل حتى ما يمور ويروج في أنفسهم وأحلامهم. “ليس لي أي انتماء سياسي، وحتى في جامعة فاس كنت أتجنب الحلقات والنقاش السياسي وأنسل في أيام التظاهرات والاحتقان وأركب حافلة تبعدني إلى بني ملال. أنا من الخبزيين الكبار ومن الحشود الهائلة…” (ص 142).

2 – التركيز على أحداث توابع.

ماذا ستنتظر، من سارد جبان رعديد، وهو يحكي لك عن مشاركته في تنفيذ ثورة يقودها الحثالة من الخارج، غير أن يحدثك عن البغال والسلحفاة والماخور والعداوات وخنوع مقهورين، ومعرض صور الموتى، وعن تودة القوادة، والمحتال زطاورو ونساء ثكالى ينتظرن على ربوة أبناءهن… إلخ.

وكما سيلاحظ القارئ، فهذه المحكيات لا علاقة منطقية لها، لا من قريب ولا من بعيد، بثورة أو فكر ثوري. ولكنها هي التي شكلت صلب التخييل في الرواية، وهي التي وظفها الكاتب بإتقان ودهاء وحرفية عالية، لبناء خطابه الروائي. خطاب يحمل على كتفيه مدفعية من الوزن الثقيل وجه طلقاتها (على الأقل في هذا الجزء الأول من الرباعية)، نحو كل فكر ثوري يختار المغامرة والعنف والحماس الزائد لإحداث التغيير.

وكما سيستخلص القارئ المتأني بنفسه، فالكاتب لم يركز في”ثورة الأيام الأربعة”، على أحداث مولاي بوعزة، وعلى محاولة سردها كرواية تاريخية، أو كسيرة تخييلية رصينة ومنطقية، كما هو الحال في كتابات وشهادات أخرى قاربت الموضوع نفسه، وإنما اتخذ تلك الأحداث مطية، ليجرنا معه مقيدين بسلاسل حبكة متينة ولغة شاعرية منتقاة بعناية، إلى أحداث وحكايات هامشية، وظفها لتنامي الحكي وتصاعده. وكذا لإضاءة الحالة النفسية والجوانية لشخوصه. ليسلط أضواءه الكاشفة عن أشياء كثيرة، تبدو في كثير من الأحيان تافهة، معتمة وغير منطقية وبعيدة كل البعد عن الذي حصل في تلك الأحداث وفي تلك المنطقة. لكنها مؤسسة لخطاب خطير في الرواية، ينتصر فيه الكاتب لثورة الفكر والثقافة والوعي.

3- اللغة

الكاتب على هذا المستوى، متمكن جدا. لغته جميلة ودقيقة ومنتقاة مفرداتها بعناية، بل تكون شاعرية أحيانا، لتعبر بسلاسة عما يريد قوله. لغة، لا يخطئ المبنى فيها معناه. يستمتع القارئ معها ويستفيد، كما لو أنه يقود سيارة فارهة في طريق سيار، متحكما في مقودها وفي الراكبين معك داخلها.

له الحق في التساؤل والتأمل والمناقشة والاستماع إلى الموسيقى والاستمتاع بالمناظر من حوله، لكن علامات ممنوع الوقوف والتوقف منصوبة على طول الطريق في وجهه. وهذه اللغة، هي التي جعلت خطاب الرواية خطيرا. بل موجها للقارئ ومتحكما فيه، منذ أول جملة في الرواية إلى آخر كلمة فيها. حتى إنك تخال الكاتب من شدة تدفقه وغزارة حكاياته والألغام التي يدسها لك بين صفحات روايته، كما تدس الأم لرضيعها دواء مرا في ملعقة عسل، أنه لا يكتب ليمتعك ويتبادل معك وجهات نظر في الموضوع، وإنما يفيض عليك كسيل من عل، ليجرفك معه وأنت منوما وعاجزا عن أي مقاومة، تماما كما تجرف سيول عاصفة رعدية، على حين غرة، كل ما تصادفه في طريقها.

لهذا كان لا بد لي، قبل الكتابة عن الرواية، من إعادة قراءتها لأكثر من مرة، والعودة من جديد لقراءة (بالتوازي معها) بعض الكتب والمقالات التي كتبت حول الموضوع، وعلى رأسها كتاب المهدي بنونة “أبطال بلا مجد”، حتى يتأتى لي الصمود في وجه هذا الخطاب الجارف، وفك ما بدا لي متناقضا أو ملتبسا فيه. وذلك من خلال استحضار وجهة نظر ورؤية أخرى مختلفة، تم تغييبها بالمرة في هذا اليوم الأول من “ثورة الأيام الأربعة”. وهي وجهة نظر ورؤية الثوار أنفسهم أو عائلاتهم، المفروض أنها جزء من الحقيقة، إن لم تكن الجزء الأكبر منها. ليس الذي عاش الحدث واكتوى بنيرانه، كمن سمع أو قرأ عنه. قد يأتي الكاتب على ذكر ذلك في الأجزاء المتبقية من هذه الرباعية الجبارة. لكن هذه قراءة في “ثورة الأيام الأربعة”. كنص مستقل بذاته.

الخلاصة

“ثورة الأيام الأربعة” رواية كبيرة، فيها مجهود جبار وبحث عميق. وتقدم معارف شتى حول تيمات مختلفة، الثورة، الجهل، الهجرة، الأنا والآخر، النفس البشرية، الألم والعجز، الخيبات، الخيانة، السلطة، الذاكرة، التاريخ، الجهل، الموسيقى، الوراثة… إلخ، وتحتاج أكثر من قراءة. وهي إذ تقصف بقوة أحداث مولاي بوعزة وما جرى فيها، لا أعتقد أنها تروم الإساءة لأحد، بقدر ما تنتصر لفكرة تنشد التغيير المبني على التوعية والتأطير وبناء الإنسان، ضد أي فكر ثوري متطرف، ينشد إحداث تغيير جذري، عن طريق حمل السلاح والصعود إلى الجبل، ليزج بالبلاد والعباد في دوامة العنف والقتل والفوضى. وهذا واضح في مقولات كثيرة مباشرة، جاءت مهيمنة داخل النص على لسان شخوص متعددين، أذكر منها ما يلي:

“أتعرف ما هي الثورة يا أستاذ؟ شيء يريد أن يولد وشيء لا يريد أن يموت، وبين هذا وذاك عنف ودماء وغرائز بدائية وسيبة وضربات غادرة وتصفيات حسابات” (ص102).

“أنا لم أعد أثق في الثورات، عد إلى التاريخ ستجد أغلبها صنع من طرف البوليس السياسي… الثورة يقودها الحثالة الذين يكونون في أماكن آمنة ويقتل فيها الشجعان” (ص 238).

“مالي والتاريخ. اللعنة على هذا التاريخ الذي لن يتقدم إلا إذا كنت وقودا له…” (ص 381).