فنون

في ذكرى رحيله الـ60.. أبو بكر خيرت صاحب النهضة الموسيقية ومؤسس الكونسرفتوار


أمجد مصطفى


نشر في:
الثلاثاء 24 أكتوبر 2023 – 6:38 م
| آخر تحديث:
الثلاثاء 24 أكتوبر 2023 – 6:38 م

* درس الهندسة فى باريس وعندما عاد قرر إنشاء أكاديمية الفنون وحقق حلم سيد درويش
عمر خيرت: عمى صاحب فضل على الآلاف من دارسى الموسيقى

60 عاما مرت اليوم على رحيل واحد من أصحاب الفضل على الموسيقيين العرب والمصريين، نظرا لما قدمه من إنجازات ونقلات تاريخية لكل المواهب الموسيقية سواء طلاب علم «تلاميذ معاهد الكونسرفتوار لأنه مؤسسه، ولكونه أول عميد له عند إنشائه عام 1959. وهو ما يعنى أن كل خريجى الكونسرفتوار حتى الآن هم تلاميذ له، حتى الذين لم يعاصروه وهم بالتأكيد الأغلبية كما قال ابن شقيقه عمر خيرت، كما أنه صاحب فضل كبير على طلاب معاهد الموسيقى العربية والباليه والسينما والفنون المسرحية، باعتباره المهندس الذى صمم هندسيا أكاديمية الفنون وفقا للأسس العلمية والمواصفات العالمية، وهو صاحب فكرة إنشائها، عندما عرض الأمر على ثروت عكاشة وزير الثقافة فى حينها ووافق على المشروع فورا. على مستوى الموسيقى فهو صاحب مؤلفات كثيرة خدمت كل الموسيقيين الذن جاءوا بعده.
الفنان والمهندس أبو بكر خيرت هو واحد من أصحاب الفضل فى إحداث النهضة الموسيقية فى مصر والعالم العربى. وبحسب المورخ الموسيقى الراحل زين نصار كما جاء فى كتاباته عنه، فإن أبو بكر خيرت نشأ فى بيت محب للفن والثقافة، كان والده محاميا يهوى الفنون التشكيلية والموسيقى، وكانت والدته يونانية. كان بيت الأسرة ملتقى لكبار رجال الفن فى عصره، وهكذا عاش خيرت طفولته فى جو حافل بالموسيقى العربية الأصيلة، واستمع إليها من مشاهير الموسيقيين فى ذلك الوقت، مما ترك أكبر الأثر فيه فيما بعد، إذ جاءت مؤلفاته قريبة من وجدان المستمع العربى عامة.
بدأ خيرت دراسة الموسيقى وهو فى الخامسة من عمره، فدرس العزف على الكمان، على الطريقة الشرقية على يد أستاذه «التركى» أحمد داده، طوال خمس سنوات. ولما بلغ العاشرة من عمره، بدأ دراسة العزف على البيانو، على يد الأستاذ كوستاكى، واستمر يدرس معه مدة عشر سنوات.
حصل على بكالوريوس الهندسة المعمارية بامتياز عام 1930، وسافر فى بعثة دراسية إلى باريس لاستكمال دراسته فى الهندسة، فانتهز الفرصة وواصل دراسة الموسيقى فى دروس خاصة، إلى جانب دراسته للهندسة، وهو ما يعنى أنه حقق حلم سيد درويش الذى مات قبل أن يحققه لنفسه. وبعد أن أنهى دراسته بنجاح عاد إلى مصر عام 1935، ومارس عمله مهندسا معماريا. وفى الوقت ذاته، استمر فى كتابة مؤلفاته الموسيقية. كما واصل دراسة العزف على البيانو مع أستاذه القديم كوستاكى. وبعد وفاة ذلك الأستاذ استكمل دراسته مع كل من الأستاذين تيجرمان وكمبيزى، واستمر أبوبكر خيرت فى كتابة مؤلفاته الموسيقية المتنوعة، سواء كانت للبيانو المنفرد أو لموسيقى الحجرة أو للأوركسترا، وقد بلغ عدد مؤلفاته أربعين عملا كان آخرها كونشيرتو البيانو والأوركسترا الثانى فى سلم فا الصغير مصنف «33»، والذى قدم لأول مرة فى الثامن من يونيو عام 1963، بدار سينما أوبرا بالقاهرة، وقام بنفسه بعزف البيانو المنفرد بمصاحبة أوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة جوزيبى جاليانو.
فى عام 1957، دعته وزارة الثقافة فى الاتحاد السوڤييتى (السابق) لزيارة موسكو، وأقامت له حفلا رسميا عزفت فيه ثلاثة من مؤلفاته السمفونية. وفى عام 1958 مثل خيرت الجمهورية العربية المتحدة فى مهرجان الموسيقى العالمى فى بوخارست، وعزفت سمفونيته «الشعبية» ويصور فيها المؤلف رقصة العصا «التحطيب» وكذلك الموسيقى السكندرية فى الأفراح، واختتم السمفونية بموسيقى تصور رحلة نهر النيل من المنبع إلى المصب. ينتمى أبو بكر خيرت، فنيا، إلى جيل رواد التأليف الموسيقى فى مصر الذى ضم كلا من يوسف جريس (1899ــ1961)، وحسن رشيد (1896ــ1969). وقد عمل الثلاثة على كتابة مؤلفاتهم، فى أساليب مختلفة، وفقا لدراسة وشخصية كل منهم. كان خيرت أحد أعضاء هذا الجيل الذى درس الموسيقى العربية، ثم درس علوم التأليف الموسيقى الغربى من دون نماذج يهتدون بها. فكان كل منهم يحاول الوصول إلى الأسلوب الذى يؤمن به ليعبر عن نفسه وعن بيئته باستخدام الأوركسترا السمفونية، أو الكورال، أو الآلات المنفردة، أو مؤلفات من موسيقى الحجرة، وسار كل منهم فى طريقه فجاءت أساليبهم مختلفة. وبحسب ما كتب دكتور زين نصار، فإن خيرت رائد فى عدة مجالات.
كان أول من استخدم ألحانا شعبية مصرية وسورية أيام الجمهورية العربية المتحدة فى عمل أوركسترالى «المتتالية الشعبية»، كما أنه أول من كتب مؤلفا عربيا من نوع الحوارية (الكونشرتو) «كونشرتو البيانو الأول 1944»، وأول من كتب افتتاحية تصويرية «إيزيس»، 1956، حيث استوحاها من رواية إيزيس للكاتب المصرى توفيق الحكيم، وألف هذه الافتتاحية فيما بين 2 و6 أكتوبر 1956، وأهداها إلى توفيق الحكيم. وأول من أعاد صياغة نماذج من تراث الموسيقى العربية التقليدية للكورال (الجوقة الغنائية) والأوركسترا مثل «إيه العبارة»، و«لما بدا يتثنى» لسيد درويش، وكان أول مؤلف موسيقى مصرى تسجل أعماله على أسطوانات.
ومن أبرز مؤلفاته المتنوعة أيضا: مؤلفات للبيانو المنفرد: ست دراسات، و«قصيدة»، و«متتالية شعبية» مصنف (25). مؤلفات من موسيقى الحجرة: سداسى للفلوت، وخمس آلات وترية، وسوناتا للكمان وأوركسترا الوتريات، ومتتالية لليراعة، (الكلارينيت) والبيانو، وسوناتا للفلوت والبيانو.
ـ مؤلفات أوركسترالية: ثلاث سمفونيات، وافتتاحية «إيزيس» ومتتالية شعبية (1958)، و«الافتتاحية الشعبية» (1960) وهى مهداة إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وحواريتان للبيانو والأوركسترا.
ـ مؤلفات غنائية: إعادة صياغة موشح «لما بدا يتثنى» للكورال والأوركسترا (1962)، وإعادة صياغة طقطوقة (أغنية خفيفة قصيرة) «إيه العبارة» لسيد درويش للكورال والأوركسترا، و«ضراعة» للكورال والأوركسترا، و«نظرة واحدة تسعدنى» للآلتو (طبقة صوتية رخيمة نسائية) والبيانو، مصنف (28)، و«نسمة الصباح» للكورال والأوركسترا، مصنف (31). الجوائز والتكريمات. فاز أبوبكر خيرت بجائزة الدولة التشجيعية فى التأليف الموسيقى عام 1959 عن مؤلفه المتتالية الشعبية، وتتكون هذه المتتالية من سبعة مقطوعات، الأولى مكتوبة فى صيغة البشرف المعروفة فى الموسيقى العربية، وهى بعنوان (مدخل) والمقطوعة الثانية بعنوان (أغنية وقانون) وفى هذه المقطوعة تشارك آلة القانون مع الأوركسترا، وتبدأ المقطوعة بتمهيد يعزفه الأوركسترا يسبق سماع عازف القانون ثم يتوارى الأوركسترا ويترك المجال لعازف القانون ليصول ويجول ويظهر براعته فى الناحيتين التكنيكية والتعبيرية، وفى النهاية ينهى عازف القانون دوره ليختتم الأوركسترا المقطوعة. وقد قام بعزف آلة القانون فى الأسطوانة التى سجلت عليها هذه المتتالية عازف القانون البارع عبدالفتاح منسى.
يلى ذلك ألحان خمس أغانى شعبية كان المؤلف يغنيها فى طفولته وهى (عطشان يا صبايا ــ يمامة حلوة ومنين أجيبها ــ بفتة هندى ــ وجننتينى يا بنت يا بيضة ــ أنصتوا أيها الصحاب)، واللحن الأخير هو الذى يغنيه العسكرى زعبلة فى المسرحية الغنائية (شهر زاد) لسيد درويش. أبوبكر خيرت كان عضوا فى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة حاليا) وكان المقرر العام للجنة الموسيقى، كما كان عضوا فى المكتب الفنى لأوركسترا القاهرة السيمفونى، وفى عام 1957 زار أبو بكر خيرت الاتحاد السوفيتى (السابق) بدعوة من وزارة الثقافة السوفيتية التى أقامت له حفلا موسيقيا رسميا عزفت فيه ثلاثة من مؤلفاته السيمفونية، وقد أشادت جريدة البرافدا السوفيتية بمؤلفات أبوبكر خيرت وتميزها، ولما علم جمال عبدالناصر بذلك، أمر بإقامة حفل بدار أوبرا القاهرة القديمة عزفت فيها مؤلفات أبوبكر خيرت فقط، وحضرها الرئيس جمال عبدالناصر تكريما له، ولكل فنان يرفع اسم مصر عاليا.

** عمر خيرت التلميذ الذى استكمل مشروع عمه
يعد الفنان عمر خيرت ابن شقيقه هو التلميذ الذى قرر استكمال حلم عمه، بتقديم الموسيقى المصرية فى اطار سيمفونى، وفى حفلات دورية للمستمع المصرى والعربى، واستطاع عمر أن يجوب اغلب الدول العربية لتقديمها، ودائما ما كان يصرح عمر، بانه يحمد الله على استكماله لحلم عمه.
وأكد عمر فى حوار سابق اجريته معه: إن عمه أبوبكر خيرت هو صاحب النهضة الحقيقية فى تاريخ الموسيقى المصرية. فهو له الفضل فى عمل الكثير لمصر على المستوى الموسيقى، والالاف من خريجى الكونسرفتوار هم تلاميذ لهذا الرجل، فالأوركسترا السيمفونى كان يعتمد على عناصر أجنبية، ولكن بعد افتتاح الكونسرفتوار تحول تدريجيا ليكون أغلب أعضائه من المصريين، من أبرز التلاميذ رمزى يسى وحسن شرارة ومشيرة عيسى، وكل الأجيال التى جاءت بعدنا تعترف بفضله، ومصر تجنى سنويا ثمار هذا المشروع العظيم.
أضاف خيرت: أن النوابغ الذين أثروا الحياة الفنية، مثل أم كلثوم وعبدالوهاب يعيشون على مر الزمن بحكم ما تركوه من إبداع. وقال عمر خيرت، عمى لم يحظَ بالانتشار الاعلامى مثل غيره، لأنه كان يعمل فى صمت وترك إنجازاته لمن لا يعرف لكى تتحدث عنه، هو رحل قبل 60 سنة لكن كل عام يتخرج تلاميذ له فى المعهد الذى شيده، كما أنه اختار نوعا من الفن لا يصل للعامة بسهولة، وكل أعمالى هى نتاج هذا الرجل.
فى أوروبا ما زالت منازل بيتهوفن، موزار وهايدن، موجودة، وتحولت إلى مزار سياحى طوال العام بفضل اهتمام الدول بتراثها الفنى. وأضاف هناك يحتفظون بكل شىء يخص الفنان، أما عندنا منزل أم كلثوم تحول إلى فندق ومنزل سيد درويش مهمل، ودور الدولة هو الحفاظ عليهم، وبمناسبة سيد درويش هو أحد الرموز الذين كانوا يحضرون الصالون الثقافى الذى كان يعده جدى فى منزله، كما أن رغبته فى السفر للخارج وتقديم أعمال لها طابع سيمفونى ولدت داخل منزل جدى. وعمى أبوبكر استخدم موسيقى درويش فى أعماله، وفى منزل جدى التقت أم كلثوم وعبدالوهاب لأول مرة. وعن اعمال عمه وتقديم مؤلفاته فى الحفلات قال: أقدم بعضها فى حفلاتى، وهناك اعمال موجودة بخط يده، وطلاب المعهد ما زالوا يدرسونها، لكن للأسف بعضها احترق فى الأوبرا القديمة، وتحتاج مجهودا لإعادة كتابتها وأنا أفعل هذا لأن كتابة السيمفونيات تحتاج مجهودا ضخما، وانهى عمر خيرت كلامه بانه يتمنى أن تهتم الدولة برموزها الراحلين.
فى الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1963 توفى أبو بكر خيرت فجأة فى مكتبه بكونسرفتوار القاهرة، وهو مجتمع بخريجى الدفعة الأولى من الكونسرفتوار الذى كان هو أول عميد له.