د. محمود محيى الدين يكتب: عن العقوبات الاقتصادية وعواقبها

عندما هدد الرئيس الأمريكى جو بايدن روسيا «بفرض عقوبات شديدة وقيود على الصادرات» فى حالة غزوها لأوكرانيا، لم يكن هذا إجراءً مستغربا فقد أصبحت العقوبات الاقتصادية وضعا افتراضيا معتادا للسياسة الخارجية الأمريكية مع كل أزمة دولية.

ويبدو أن الرئيس الروسى بوتين قد أدرج هذا فى حساباته قبل الحرب فبلاده كانت بالفعل هدفا لعقوبات، ولم يبالِ بالتهديد بأن العقوبات الجديدة ستكون أشد عنفا من تلك التى طُبقت بعد أزمة القرم فى عام 2014؛ وهو ما حدث بالفعل ولم تكفِ العقوبات المشددة فى الردع أو عدم تصعيد العمليات العسكرية. ولم تكن هذه حالة استثنائية لعجز العقوبات عن تحقيق أهدافها الأمنية أو العسكرية بمنع الحرب، فيذكر محلل السياسات الدولية جوشوا كيتينج أن سجل العقوبات به خليط من الإخفاق والنجاح، وهى إلى الإخفاق أقرب حيث لم تحقق نجاحا إلا فى 33% من الحالات.

ويُرجع المؤرخون أول استخدام للعقوبات إلى عهود الإغريق، إذ أشار لها المؤرخ اليونانى القديم ثوكيديدس فى فرض أثينا حظرا على تجارة مدينة ميجارا فى القرن الخامس قبل الميلاد. وهو ما رجع إليه المؤرخ الأمريكى نيكولاس مدلر فى كتابه الصادر قبل حرب أوكرانيا بأسابيع تحت عنوان «السلاح الاقتصادى وزيادة استخدام العقوبات كأداة فى الحروب الحديثة». ويفرق مدلر بين العقوبات الحديثة وتلك القديمة بأنها، كما حدث فى أثناء الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تستند إلى القانون الدولى وأعرافه وكثيرا ما استخدمتها الدول الأعضاء فى عصبة الأمم ــ الكيان الأممى الذى نشأ بعد الحرب العالمية الأولى وأنهته فعليا الحرب العالمية الثانية. ووصف الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون العقوبات الاقتصادية المضمَّنة فى المادة السادسة عشرة من اتفاق عصبة الأمم بأنها من شأنها «أن تسبّب ضغوطا تفوق قدرة أى دولة حديثة على تحملها».
ونجحت هذه العقوبات فى بعض الحالات مثل إنهائها الغزو اليونانى للأراضى البلغارية فى العشرينيات من القرن الماضى. ولكنها فشلت فى منع القوات الفاشية بقيادة موسيلينى من غزو إثيوبيا فى الثلاثينيات، بل جعلته يتقرب من ألمانيا بقيادة حاكمها النازى هتلر. ومع فشل العقوبات الاقتصادية فى ردع موسولينى، فما عساها تفعل قبال هتلر وأطماعه الأوروبية أو لتحجيم اليابان بمنعها فى الاستمرار فى غزو الصين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية فلم يكن أمام التحالف إلا الإذعان لما يحدث من عدوان أو إعلان الحرب، وهو ما كان فى نهاية الأمر بما خلفته من ضحايا ودمار.

ويحدد المؤرخ الشهير بول كينيدى، مستعينا بكتاب السلاح الاقتصادى، ثلاثة دروس تزداد فيها احتمالات فاعلية العقوبات: 1) ألا تكون ناعمة كأنها تُظهر مجرد عدم رضا عن الفعل، بل يجب أن تكون مُنزلة لألم شديد بالخصم. 2) أن تكون ذات ستار حديدى خالٍ من الثغرات التجارية والمالية وبلا أى استثناءات. 3) ألا يتمتع الخصم خلالها بسند من قوة أو قوى اقتصادية تمده بما يحتاج. ولهذا نجحت العقوبات الاقتصادية تاريخيا فى حالات التعامل مع الدول ذات الاقتصادات الهشة أو شديدة الانكشاف الاقتصادى باعتمادها على الخارج. ولكن الدول ذات الاقتصادات الأكبر لن يلحقها الأذى إلا وقد مس خصومها أذى مثله. وهو ما حذّر بوتين بايدن من حدوثه فى لقائهما الافتراضى فى ديسمبر الماضى عبر الفيديو بأن إقناع الأوروبيين بعدم الإسهام فى خط غاز «نورد ستريم الثانى» لا يخيفه بل سيؤذى حلفاء أمريكا.
ويبدو أن الاستخدام المعاصر للعقوبات الاقتصادية، بوصفها أدوات أنعم من العتاد الحربى، جعل الخطوط الفاصلة بين حالة الحرب وحالة السلم مبهمة باستخدام متكرر لأدوات من شأنها إلحاق دمار بالإمكانيات والأنشطة الاقتصادية، بل بحياة الناس أنفسهم، فى وقت قد يعرف اسما بالسلم لغياب حرب تقليدية معلنة.
كثيرا ما يترتب على القرارات بما فى ذلك إجراءات العقوبات الاقتصادية فى حالتنا هذه نتائج تناقض مقاصدها المعلنة، وقد أشرت من قبل على صفحات هذه الجريدة الغراء إلى أنه فى أحوال متعددة تتجاوز هذه النتائج غير المقصودة ما يمكن عدّه مجرد آثار جانبية حيث تتجاوز حجما وضررا ما كان مستهدفا منها.

ويذكر روبرت مرتون، الباحث فى علم الاجتماع، فى مقال نشره عام 1936 أربعة أسباب للوقوع فى فخ النتائج غير المقصودة للقرارات:
1) الجهل بطبيعة المشكلة وأبعادها المتشابكة، وقد يكون ذلك لقصور فى البيانات والمعلومات أو لضعف القدرة على التحليل.
2) الخطأ فى المعالجة لنقصٍ فى الخبرة أو لسوء اختيار التوقيت أو لعدم القدرة على توضيح الأهداف من القرار.
3) الاستناد إلى بعض المثل والمبادئ الأساسية التى قد تؤدى إلى نتائج عكسية إذا لم يتم وضعها فى إطار من التوازن والاعتدال.
4) الرغبة الملحّة فى تنفيذ القرار بما يجعل صاحبه يتغاضى عمدا عن أى آثار قد يسببها اتخاذه، فيصبح وكأنه قد قرر تجاهل أى أمر يسببه القرار مهما بلغ حجمه وضرره.
ومما لم تتناوله الحوارات مع إرهاصات الحرب الدائرة الآن فى أوكرانيا، الأثر على الأطراف الثالثة أو ما يشبه إبان الأزمات الكبرى الأبرياء المتفرجين على سباق محتدم بين متصارعين رُعُن، فيطولهم الأذى بما يطيش من سلاحهم دون اكتراث. أما الأبرياء المقصودون هنا فهم أهل الدول النامية، وفى مقدمتها دول عربية وأفريقية، فقد ساء تقدير أثر قيام حرب بين روسيا وأوكرانيا اللتين لا يتجاوز إسهامهما فى الاقتصاد العالمى 3 أو 4% على أقصى تقدير، ولكن لهما أوزان مؤثرة بشدة فى قطاعات الطاقة والقمح وزيوت الطعام والأسمدة فضلا عن تأثيرهما فى السياحة الدولية. وتأتى هذه الحرب بمربكاتها مع وضع اقتصادى عالمى هش يعانى أصلا، بسبب الجائحة وتداعياتها، من تراجع فى معدلات النمو والتشغيل وزيادات فى التضخم لم يشهدها العالم منذ أربعة عقود وديون خارجية تعتلى موجاتها بمخاطرها ما سبق من موجات انتهت كل واحدة منها بأزمة عالمية مشهودة.
ــ آثار ممتدة لتسليح أدوات الاقتصاد وتلغيم قنواته

ورغم أن العقوبات الاقتصادية، بما فى ذلك الموصوف منها بالذكاء، لم تحقق أهدافها المعلنة بكفاءة ما زال هناك من ينادى بها مثلما فعل الديمقراطيون فى الكونجرس الأمريكى بمطالبتهم بفرض عقوبات اقتصادية ضد الكيانات التى تهدد المناخ، أو ما كان من مطالبة باستخدام عقوبات دولية ضد من يحجب معلومات عمّا يهدد الصحة العالمية كالأوبئة. ويجعل مثل هذا التخوف من احتمالات استخدام عقوبات اقتصادية خطرا متزايدا، بما يضطر المسئولون فى دول مختلفة إلى اللجوء إلى بدائل، سواء لتحويل الأموال، وهو ما يجرى فعلا فى الصين من خلال نظامها للتحويل المصرفى عبر الحدود والذى تطور منذ أزمة القرم بمنع روسيا من استخدام نظام «سويفت»؛ وكذلك إلى البحث عن أوعية مالية بديلة للاستثمار بعيدا عن أصول مالية قد تتعرض للتجميد، أو غير مالية قد تتعرض للمصادرة، بسبب اختلافات سياسية دولية.

هذا فضلا عن البحث كذلك عن عملات دولية بديلة للدولار الأمريكى، فرغم انخفاض نسبته فى الاحتياطيات الدولية من أكثر من 70% فى عام 2000 إلى 60% حاليا، فما زال الدولار يحظى ــ حتى الآن ــ بما وصفه الرئيس الفرنسى ديستان بـ«امتياز سخى» كعملة دولية يتمتع مصدرها بأن يشارك فى سداد ديونه كل من يحمل عملته. ولكنْ هناك آثار على النظام النقدى الدولى من خلال التوسع فى العملات الرقمية للبنوك المركزية بما فى ذلك من الصين كأكبر دولة نصيبا فى التجارة العالمية، ومع حالة الاستقطاب الدولى بين نظامين فى الشرق والغرب، تزداد الآراء المرجحة لتراجع هيمنة الاقتصاد الأمريكى ومن ثم عملته خاصة، بما جعل زانج يانلينج، نائبة الرئيس التنفيذى السابقة لبنك الصين، تقول لمستمعيها فى محاضرة، أشارت إليها صحيفة «الفاينانشيال تايمز» فى تحقيق عن مستقبل الدولار الشهر الماضى، إن نوعية العقوبات الأخيرة أثّرت على مصداقية الدولار فى الأجل الطويل، وتبشر مستمعيها بالبزوغ الدولى للعملة الصينية اليوان وبأن «الصين ستساعد العالم فى التخلص من الهيمنة الدولارية أقرب من المتوقع». أى إنه بعد عهد من «الدولرة» قد يأتى عهد «اليوننة»، نسبةً إلى اليوان!
عادةً ما يستمر وصف الترتيبات النقدية والمالية المعمول بها بأنها تخدم المتعاملين بها والمستفيدين منها على نحو جيد، حتى يتم استبدالها! فتحل محلها ترتيبات جديدة تتوافق مع المستجدات فى عالم شديد التغير.
نقلا عن «الشرق الأوسط»