اخبار المغرب

‪الكنبوري يكتب عن نشأة “المسألة اليهودية” .. قضية نشاز وُلدت داخل أوروبا‬

قال الكاتب والباحث إدريس الكنبوري إن المواكبة الإعلامية للأحداث في فلسطين تنهل من قاموس التضليل والخداع بطريقة توحي بأن الأمر يكتسي طابع الإبادة الجماعية لليهود على يد العرب والفلسطينيين، مبرزا أن الغرب يعمل منذ زمن على شيطنة المقاومة الفلسطينية.

وتطرق الباحث ذاته ضمن مقال توصلت به هسبريس لنشأة المسألة اليهودية كقضية نشاز داخل المجتمعات الأوروبية مع ظهور النزعة القومية في أوروبا المسيحية، على اعتبار أن اليهود لا ينتمون إلى أي من تلك القوميات الأوروبية، بل يمثلون عرقا قائم الذات.

وشدد الكنبوري على أن المسألة اليهودية ولدت داخل أوروبا ومن قلب معاناة اليهود الأوروبيين، ولم تكن أبدا قضية العرب والمسلمين. مقدما دليلا مفاده أن الحركة الصهيونية نشأت في أوروبا لا في العالم العربي.

وهذا نص المقال:

منذ بداية عملية “طوفان الأقصى” والعبارة التي تتكرر على ألسنة المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، وفي الصحف ووسائل الإعلام الغربية، هي “إبادة اليهود”، فقد تصدرت عناوين مثل “كراهية اليهود”، “إبادة إسرائيل”، “القضاء على الجنس اليهودي” وسائل الإعلام الغربية خلال الأيام الماضية. وفي خطابه يوم العاشر من أكتوبر قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن المقاومة الفلسطينية لا تدافع عن الحقوق الفلسطينية بل “تريد محو الوجود اليهودي”.

كل هذا المعجم السلبي تم استعماله بكثرة في جميع التغطيات الإخبارية للأحداث في فلسطين، وفي التعاليق والتحاليل والمقالات في الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية، مع ما في ذلك من التضليل والخداع والنسخ واللصق، بطريقة توحي وكأن الأمر فعلا يكتسي طابع الإبادة الجماعية لليهود على يد العرب والفلسطينيين. وازداد التركيز على هذه المفاهيم المسكوكة مع انتفاضة الشارع العربي والإسلامي وخروج المسيرات والمظاهرات في عدد من العواصم في العالم العربي والإسلامي، بل في قلب أوروبا وأمريكا أيضا.

ولكن هل القضية فعلا بهذه الصورة المشوهة؟.

لا يخفى أن الغرب يعمل منذ زمن طويل على شيطنة المقاومة الفلسطينية، وهذه الإستراتيجية ليست وليدة اليوم، بل إنها نشأت مع أول رصاصة أطلقتها منظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات من القرن الماضي. وإذا كانت المقاومة الفلسطينية توصف اليوم بالإرهاب فإن هذه التهمة ليست جديدة، فقد استعملت آلاف المرات ضد منظمة التحرير وياسر عرفات وحركة فتح، حتى لا يتصور الجيل الحالي من العرب أن في الأمر جديدا، وأنه يتعلق بحركة حماس والجهاد الإسلامي فحسب.

ولكي تنجح هذه الخطة في شيطنة المقاومة الفلسطينية كان لا بد من إنتاج نقيضها، وهو تصوير يهود إسرائيل كشعب مهدد بخطر الإبادة الجماعية على يد الفلسطينيين بدون وجه حق، فقط لكون الفلسطينيين متصفين بنزعة معاداة السامية وكراهية اليهود، وهكذا تم الانتقال بسرعة ووفق إستراتيجية مدروسة من حالة تتعلق بالاحتلال إلى حالة تتعلق بخصائص نفسية لدى الفلسطيني، من مقاومة مشروعة ضد الاحتلال إلى نزعة نفسية مرضية هي الكراهية.

إن الهدف الحقيقي للغرب هو نقل ما سميت خلال القرن التاسع عشر “المسألة اليهودية” من أوروبا إلى العالم العربي، فقد كانت تلك المسألة عبئا على البلدان الأوروبية حاولت التخلص منها عبر رميها على أكتاف العرب، ليصبحوا المسؤولين عنها أمام العالم. ويمكن تشبيه الأمر دون كثير مبالغة بدفن النفايات خارج التراب الأوروبي للتخلص منها. فقد نشأت “المسألة اليهودية” داخل أوروبا وروسيا، ولم يعرف العالم العربي والإسلامي إطلاقا تلك المسألة طيلة تاريخه، لأن يهود أوروبا عاشوا طوال قرون الإبادات الجماعية ومحاكم التفتيش والقتل والإحراق والطرد على يد المسيحيين والكنيسة الكاثوليكية، بسبب اتهامهم بجريمة قتل المسيح. وخلال تلك الفترات قتل مئات الآلاف من اليهود الذين كانوا يمثلون العرق الشرير والجنس الشره الميال إلى الطمع والربا وجمع الأموال، كما جرى إلصاق جميع الشرور بهم في العقل الجمعي الأوروبي المسيحي، مثل السحر والطاعون الأسود والجفاف، بل كلما كانت تحدث الكوارث في أوروبا مثل المجاعات أو سرقة الأطفال أو الحروب كان اليهود المتهمين، حتى عرفت اللغات الأوربية عبارة شهيرة هي “اليهودي الوسخ” Sale juif.

ومع ظهور النزعة القومية في أوروبا المسيحية، وسعي كل قومية أوروبية إلى الاستقلال بنفسها في دولة قومية بعيدا عن القوميات الأخرى، ظهرت المسألة اليهودية كقضية نشاز داخل المجتمعات الأوروبية، لكون اليهود لا ينتمون إلى أي من تلك القوميات الأوروبية بل يمثلون عرقا قائم الذات. وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر طرح كارل ماركس لأول مرة هذه المسألة في كتاب تحت عنوان “عن المسألة اليهودية”، حيث حاول البحث عن حل لها داخل أوروبا نفسها بعيدا عن الحلول الكثيرة التي كانت مطروحة قبل ذلك، ومن جملتها التخلص منهم عبر جمعهم في وطن قومي خاص بهم، أو إبادتهم. ورغم أن ماركس كان يؤمن بالطبقات الاجتماعية إلا أنه لم يدرج اليهود في أي من تلك الطبقات التي تحدث عنها، بل تعامل معهم باعتبارهم فئة على حدة، أي يهودا، وتلخصت فكرته في حل المسألة اليهودية في أن يتخلص اليهود من الجشع وحب المال والربح والتجارة، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتحررهم واندماجهم في المجتمع الأوروبي.

بيد أن هذا الحل لم ينجح على أي حال، ثم توالت الاقتراحات لحل المسألة اليهودية، وكلها كانت تصطدم بواقع اليهود الملتصقين بدينهم وتقاليدهم التاريخية الصلبة. وفي الستينيات من القرن الماضية نشر جان بول سارتر كتابه الشهير “تأملات في المسألة اليهودية”، ولم ينتقد اليهود كما فعل ماركس بل انتقد الأوروبيين ونزعة معاداة اليهود، ودعا إلى الديمقراطية كحل لمعضلة الوجود اليهودي في أوروبا، بحيث يتم تذويبهم في المجتمعات الأوروبية عبر الأساليب الديمقراطية.

كل تلك الحلول لم تجد نفعا، واستمرت معاناة اليهود في عدد من البلدان الأوروبية وروسيا، فقد كانوا يعيشون معزولين عن الأوروبيين في غيتوهات مغلقة، وهو ما زاد من تغذية موجة العداء لهم بسبب نزعة الانفصال التي يتميزون بها عن الآخرين. ومع بروز الدول القومية وانقسام أوروبا المسيحية إلى دول قومية طرحت المسألة اليهودية نفسها بقوة كعبء على جميع القوميات الأوروبية، ليبدأ التفكير في حلها جذريا حتى لا يستمر الصدام بين العرق اليهودي والأعراق الأوروبية، وأخذ اليهود أنفسهم يفكرون في حل لقضيتهم على أساس قومي شبيه بما صنعه الأوروبيون، لكي يميزوا أنفسهم كقومية عن القوميات الفرنسية والألمانية والإيطالية والنمساوية والروسية وغيرها، فبدأت الفكرة الصهيونية تتبلور في عقول بعض اليهود الأوروبيين، أمثال ثيودور هرتزل الذي نشر كتابه “الدولة اليهودية” في الوقت نفسه الذي نشر فيه ماركس كتابه المشار إليه عن المسألة اليهودية.

وفي ثلاثينيات القرن الماضي عندما حكم الحزب النازي القومي ألمانيا، حيث أحرق اليهود الألمان، حصل أول صدام حقيقي بين العرق اليهودي وأحد الأعراق الأوروبية، وهو العرق الآري، فاقتنعت أوروبا بأنه لا مستقبل للعرق اليهودي إلا في وطن قومي خاص به، وهنا بدأ التفكير جديا في فلسطين كوطن قومي بديل لليهود، وأخذت أوروبا تتبنى هذا الطرح الذي وجد تجاوبا لدى اليهود بحكم ما ورد في التوراة عن فلسطين كأرض للميعاد. وتلاقت المصلحتان، فأوروبا بمنح فلسطين لليهود سوف تتخلص من المسألة اليهودية نهائيا، واليهود بأخذهم فلسطين سوف يتمكنون من إنشاء وطن قومي لهم وتنفيذ وعد التوراة، وبقية القصة معروفة، إذ بعد احتلال بريطانيا فلسطين منحتها لليهود بمقتضى وعد بلفور الشهير عام 1917، ثم جاء قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وإعلان دولة إسرائيل في العام التالي.

فالمسألة اليهودية إذن هي قضية ولدت داخل أوروبا، ومن قلب معاناة اليهود الأوروبيين، ولم تكن أبدا قضية العرب والمسلمين. ومن أوضح الأدلة على ذلك أن الحركة الصهيونية نشأت في أوروبا لا في العالم العربي والإسلامي، وكان الدافع إلى إنشائها انتقال أوروبا من المسيحية إلى الدولة القومية موحدة العرق. وجميع زعماء الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر هم من الأوروبيين، وليس بينهم يهودي واحد من العالم العربي والإسلامي، أمثال هرتزل وموسى هس والبارون إدموند روتشيلد وحاييم وايزمان وهربرت صموئيل وفلاديمير جابوتنسكي وموسى مونفيوري وغيرهم، كما أن مؤسسي إسرائيل الأوائل كانوا من يهود أوروبا، أمثال دافيد بن غوريون وموشي شاريت وإسحق بن زفي وزلمان شازار وإسحق نافون وحاييم هرتزوغ وشيمون بيريز، وميناحيم بيغن وغولدا مايير وإسحق شامير وأرييل شارون، وليس بينهم يهودي واحد من العالم العربي والإسلامي.

وعندما بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان يهود أوروبا وروسيا أول المهاجرين، فهم الذين أنشؤوا أول الكيبوتسات (المستوطنات الزراعية والعسكرية)، وهم الذين أنشؤوا الصندوق اليهودي العالمي لجمع التبرعات، والوكالة اليهودية لتهجير اليهود. ولم يبدأ اليهود العرب الهجرة إلى فلسطين إلا في النصف الثاني من القرن العشرين بوجه خاص، أي بعد أن اكتمل المشروع الصهيوني وظهرت دولة إسرائيل، فهم لم يكونوا معنيين بالهجرة إلا بعد أن ظهرت الحاجة إليهم لتحقيق التوازن الديمغرافي مع الفلسطينيين وتكثير أعداد اليهود، وما يفسر لنا هذا بوضوح أن يهود إيران على سبيل المثال لم يهاجروا إلا في الثمانينيات، أما يهود إثيوبيا (الفلاشا) فلم يهاجروا إلا في التسعينيات من القرن الماضي، بينما كانت هجرة يهود أوروبا تجري بحماس كبير وعلى وجه الاستعجال منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى اليوم تتمثل النواة الرئيسية للنفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري في يهود أوروبا فقط (الإشكيناز)، بينما يوجد يهود الشرق (السفارديم) على الهامش، لكي يتبين لنا أن إسرائيل مشروع أوروبي من حيث التكوين التاريخي ومن حيث البنية السوسيولوجية.

ومع انتقال يهود أوروبا إلى فلسطين انتقلت معهم المفاهيم الأوروبية التي أطرت وجودهم في أوروبا، مثل الإبادة والمحرقة وغيرها، فمفاهيم الإبادة الجماعية Extermination والحل النهائي Solution Finale والهولوكوست Holocauste والمحرقة Shoah والمذبحة Pogrom هي مفاهيم تنتمي إلى الثقافة الأوروبية ولم تعرفها الثقافة العربية الإسلامية، كما أن مفهوم معاداة السامية Antisémitisme ظهر في أوروبا فقط لا خارجها، وقد تحدث عنه سارتر باعتباره نزعة أوروبية خالصة، وأبلغ دليل على ذلك أن العرب أنفسهم ينتمون إلى العرق السامي، ولا يمكن لهذا المفهوم أن يكون عربيا إلا إذا كان العرب يكرهون أنفسهم أيضا.

ولذلك فإن ما يقال اليوم عن إبادة اليهود على يد الفلسطينيين والعرب مجرد أكاذيب لتحويل التهم التي كانت تُتهم بها أوروبا إلى العرب والمسلمين، وتحميلهم المسؤولية عن مصير اليهود الذين تخلصوا منهم برميهم على أكتاف العرب والمسلمين وعلى حساب الفلسطينيين، وما نراه من دعم غربي مقدس لإسرائيل ليس سوى محاولة للتكفير عن الذنب الأخلاقي تجاه اليهود طيلة قرون من الاضطهاد والإبادة الجماعية والكراهية، بعد أن تخلص الغرب من “المسألة اليهودية” من خلال إنشاء إسرائيل، ليصبح العرب والفلسطينيون مسؤولين عنها أخلاقيا أمام العالم، ولتصبح كل مقاومة للاحتلال معاداة للسامية ومحاولة للقضاء على العرق اليهودي.