اخر الاخبار

تعاقد جديد مع الحياة..تمارا الرفاعي

وجدت فى جيب قميصى هذا الأسبوع بطاقة صغيرة كتب عليها «أنت أهم ما فى حياتى ووجودك قربى هو قوس قزح».

تذكرت أننى التقطت هذه البطاقة منذ أكثر من سنة من مدخل قهوة صغيرة فى يوم عادى لا ملامح خاصة له سوى هذه البطاقة التى بقيت فى جيب القميص منذ ذلك اليوم. لم أعرف حينها من ترك البطاقة وكانت القصة، لكنى وضعتها فى جيبى واعتبرتها رسالة من الحياة.
• • •
خلال هذه السنة، فرضت على وعكة صحية مررت بها أن أعيد التفاوض مع الحياة وأستخدم كل ما لدى من حجج وأدوات لأضمن لنفسى مزيدا من الوقت: ما زال هناك ساعات الشفق التى أريد أن أشهدها فتلون روحى بالأحمر والبرتقالى والبنفسجى. لم أستحضر بعد بدقة رائحة ساعات الصباح الأولى من دمشق حيث تنهى نبتة مسك الليل نشاطها الليلى بعد أن تكون قد فردت عطرها على المدينة. لم أشبع من يدى ابنتى الغضتين حين تلتفان حول عنقى عند الفجر فأشم فى رقبتها رائحة الخبز الطازج. لم أفك بعد شيفرة ابنى الأوسط فهو يحافظ على أوراقه قرب صدره حين يلعب ولا يفردها على الطاولة، وها أنا أحاول أن أفهم من خلال كلماته القليلة كيف تغيره بداية المراهقة. ما زلت أطمع الوصفة الأفضل على الإطلاق لحلويات أعجن فيها الفستق الحلبى بماء زهر البرتقال، لذا فأنا أحتاج مزيدا من الوقت على الأرض. أتوقع أكثر ردود أفعال ابنى الأكبر فهو يستخدم أدوات تشبه أدواتى فى التعامل مع ما حوله رغم أنه يختلف فى ملامحه عنى تماما، أريد أن أرافقه ربما لأتعرف على نفسى أكثر.
• • •
أما زوجى، فما زال أمامى الكثير لأتعلمه منه حتى نصل معا إلى وقت نجلس فيه على شرفة صغيرة نراقب منها الشارع ومن فيه. أريد أن يحتوى عقدى الجديد مع الحياة على بند مراقبة الشارع فى مرحلة متقدمة من العمر. أريد أمسيات أجلس فيها على الكرسى فى الشرفة أطل برأسى على مدخل العمارة التى ما زلت أسكن فيها فأرى من يدخلها ويخرج منها وأعلق على التغييرات وأنا أشتاق لأيام سوف أصفها، تماما كمن سبقونى، أنها كانت أجمل وأقل تعقيدا.
• • •
تفاوضت فى السنة الماضية مع الحياة حتى تعطينى وقتا إضافيا مقابل أن أكون أكثر امتنانا للدنيا على كرمها معى، وأقل توترا مع من حولى، وأقرب إلى من هم فى شدة. وضعت على طاولة التفاوض استعدادى أن أكون أقل عنجهية وأكثر تواضعا، فقد تعلمت أن الهزيمة قد تضرب من حيث لم أضع دفاعات. قدمت أيضا تنازلا عن بعض الأهداف، وها أنا أتقبل فكرة أننى لن أحصل على كل ما أريد إنما سوف أستمتع بما لدى وأعتبره كافيا. مقابل ما قدمت، طلبت من الحياة مزيدا من الوقت والصحة، تعهدت أن أحافظ على الاثنين ولا أفرط بهما كما فعلت فى السنوات الأخيرة.
• • •
ها أنا أعرض على الحياة عقدا جديدا أقدس بموجبه كل يوم وأتعامل معه على أنه قد يكون الأخير. هل تأملت الشجرة أمام شباكى؟ نعم، هى التى رافقتنى فى أيامى الصعبة وذلك الشتاء التى فقدت فيه أوراقها كما فقدت بعض أوراقى وها هى تعود وتخضر كما تخضر روحى وتتلونه من جديد. هل أعطيت ابنى دقائق يشرح لى فيها سبب تعكر مزاجه اليوم؟ أستمع إليه وأشياء أخرى تلح على عقلى وأعيد نفسى إلى قصة ابنى حتى أطمئنه أننى معه هنا ومهتمة. أمى، لم أكلمها منذ أيام، أعتمد على يقينى أنها تتفهم انشغالى لكن أظن أننى سوف أعمل لنفسى بعض القهوة وأفتح معها حديث الصباح على رائحة حب الهال. السماء فوق رأسى، ما لونها اليوم؟ أعيش فى مدينة سماؤها زرقاء صافية، لكنى لم أعد ألاحظها رغم أنها شدتنى بعد انتقالى من العاصمة الملوثة حيث لا زرقة فى السماء الرمادية.
• • •
وسط الزحام، هل تمعنت فى وجوه من حولى بحثا عن قصصهم كما يروونها دون كلام، أم لصقت وجهى بشاشة الهاتف فانسلخت عما حولى؟ تلك الصبية الممتلئة أظنها تتساءل عن اتساق ألوان ما تلبس وهى تسترق النظر إلى الشباك الذى يعكس صورتها وهى تنتظر أن يسلمها الموظف بطاقتها الشخصية. تشد الصبية قميصها حين ينظر إليها الموظف وألتقط نظرته من حيث أجلس خلفها فأفهم توترها. ذلك الرجل الذى ربط ربطة عنقه بعناية ووضع رجلا على رجل أظن أن رائحة الصنوبر الخفيفة تأتى منه. يداه النحيلتان تمسكان بملف بلاستيكى فيه وثائق يبدو لى أنها لإثبات الملكية، هل يحاول أن يختصر الطريق على أبنائه فينهى بنفسه إجراءات قد يضطر أولاده أن يتابعوها إن رحل؟
• • •
أرفع رأسى من الشاشة فتضحك لى شمس الصيف الحارقة فى أسبوع ارتفعت فيه الحرارة بشكل مفاجئ. تشهد الشمس إذا على عقدى الجديد مع الحياة وتضع دمغة القبول على يدى حين أرى أول بقعة صغيرة قرب معصمى تشى بسنوات عشتها بوفرة. سوف أحاول أن أكون شخصا أفضل حتى أستحق سنوات من الصحة أنفقها مع من أحب. أنا هنا أبرم تعاقدا جديدا مع الحياة