اخبار فلسطين

سعد ومنتصر ونور الدين.. وفاء الأصدقاء في قلب المعركة

نابلس خاص قدس الإخبارية: نزل سعد الخراز (43 عامًا) من سيارته لمواجهة جنود جيش الاحتلال الذين فتحوا النار على سيارته، قرب مدخل ما يسمى “الحي السامري” على قمة جبل “جرزيم” في مدينة نابلس صباح 25 يوليو/ تموز 2023، واختار المواجهة ورد النار بالنار فأصيب بجراح وبدأ يبتعد عن السيارة، بينما كان يحاول صديقاه نور الدين العارضة (32 عامًا) ومنتصر سلامة (33 عامًا) الانسحاب بسيارتهم أمام محاصرتهم من جنود الاحتلال من اتجاهين، رفضا ترك رفيقهما المصاب، وظلا يطلقان النار نحو الجنود لحمايته والتغطية عليه حتى يتمكن من العودة للمركبة.
هاجمتهم قوة أخرى من اتجاه آخر، وبدأت معركة ضارية جديدة. اشتبك الأصدقاء الثلاثة بكل قوتهم من نقطة صفر، فجسدوا ملحمة جديدة من الوفاء والشجاعة في قلب ساحة المعركة، إلى أن ارتقوا جميعًا في اللحظة نفسها، تسابقوا فيها على الشهادة.

كانت مهمة عروة الخراز وشقيقه الأكبر هو كيف سينقل الخبر لوالدهما الضرير الشيخ ماهر الخراز والبالغ من العمر 75 عامًا، وكذلك لوالدته نبأ ارتقاء “سعد”، كانا يحبسان أنفاسهما وهما في الطريق نحو المنزل، فتفاجأ بامتلائه بالمعزين ومعرفة والدهم بالخبر من خلال الناس.

خيمة تهنئة لا عزاء

والده (ماهر الخراز) الداعية والقيادي بحركة حماس، لطالما شيع شهداء وصلى على جثامينهم، وقف صلبًا أمام رحيل نجله، فقال بكلمات ممتلئة بالإيمان: “فتحنا خيمة تهنئة لا عزاء” وأمَّ بالمصلين ودعا لنجله بالرحمة والمغفرة.

يغلف الفخر صوت عروة الخراز وهو يلخص محطات من سيرة شقيقه، قائلاً لـ “شبكة قدس”: “تربى سعد في موائد القرآن بالمساجد، وكبر على ذلك، فاعتقل عند الاحتلال لمدة 16 شهرًا عام 2005، وخضع لتحقيق سري لمدة 73 يومًا،  وبعد خروجه انخرط بالكتلة الإسلامية وكان أميرها بالجامعة ورئيس المؤتمر العام لمجلس اتحاد الطلبة في جامعة النجاح للعام 20052006”.

“كان سعد يعيش حياته طبيعية، يذهب إلى عمله في تنجيد “الأثاث” ودائما يبر والدي، يتابع أمور أطفاله، يحافظ على صلاته، لا أتذكر أنه قطع صلاة الضحى (نافلة) منذ 30 عاما، عرف عنه أنه محبوب وكريم وسباق في الخير” هكذا عاش آخر فترات من حياته.

في حياة جهادية طويلة أصيب الخراز بقدمه، وأطلقت الرصاصات على بيته، اعتقل لدى السلطة أربعة مرات، وبعد خروجه اعتقل لدى الاحتلال خمس سنوات عبر فترات متفاوتة، منها اعتقال استمر 18 شهرا عام 2008 رافقه فيها شقيقه ووالده أيضًا

 يدخل السجن من بوابة الذاكرة: “كنا ثلاثة بالسجن، خرجت واستمر أخي بالاعتقال الإداري حتى 17 يونيو/ حزيران 2010، وبعد تحرره كانت السلطة تريد اعتقاله، لكنه بدأ في ترميم نفسه فتزوج ورزق بأطفال”.

لا يفر من ذاكرته مشهد افتراقهما “كان الموقف عام 2009، وكنا بسجن مجدو، عندما جاءه قرار نقل لسجن آخر، كل القسم بكى عليه، فقد كان يحظى بشعبية واسعة من جميع الفصائل ويومها لم يكن يتم فصل الأسرى كل حسب تنظيمه، فقد كان حضوره مميزا وأيضا ماهرا في إعداد الحلوى والطعام حتى أنه يتولى إعداد الحلوى بالمناسبات لكل القسم”.

قبل ليلة من الاستشهاد، جمعت الشقيقين سهرة عائلية يستحضر تفاصيلها: “احتسينا القهوة، وكان الحوار عائليا عن حال والدتي، وداعبنا أطفاله، حثني أيضا على الزواج”.

وقبلها بأسبوعين، تعرض المنزل لاقتحامين من قوات الاحتلال، يروي تفاصيلهما الخراز بنبرة غاضبة “اقتحموا البيت بشراسة، وأدخلوا كلبا مدربا علينا، تواجهت معه خوفا من إيذاء الأطفال، وبعدها بأيام عادوا واقتحموا البيت ب وحشية، وكسروا خلالها البيت واعتدوا على والدتي، ورغم أننا طلبنا سيارة الاسعاف إلا أنهم منعوا دخوله للمنزل، خضنا معركة يومها معهم باليدين”.

لأول مرة ذهب أطفاله عماد (11 عاما) وعبد الملك (10 أعوام) وفتحية (7 أعوام) وعائشة (6 أعوام) لمدرستهم بلا والده، فيما ستكبر الرضيعة لين (شهران) مبكرا في “اليتم”.

تنصت “قدس” لصوت الألم الساكن بقلب الخراز: “أوصلتهم للمدرسة، فكان الأمر مؤلما لأنني لم أستطع حبس دموعي، في لحظة يفترض أن يتواجد فيها والدهم”.

3 علامات

كبقية أبناء نابلس، تابع محمود العارضة أحداث الاشتباك حتى وصلت عقاربُ الساعة في دورانها إلى العاشرة والنصف صباحًا، كانت تلك اللحظات حاسمة، فهواجس الشك بدأت تتسلل إلى داخله بعد أن حاول الاتصال بشقيقه “نور الدين” ولم يجد ردًا من هاتفه، وبالتوازي اتصل بصديقه المقرب “منتصر” لكن النتيجة كانت مشابهة: الهاتف مغلق!.

 ثلاث علامات حذاء وخاتم ومفاتيح شخصية ملقاة على الأرض بين إطار صورة نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت ثلاث علامات تعود لشقيقه حسمت الأمر للعارضة الذي ظلَّ في حيرة من أمره ينتظر تأكيد خبر الاستشهاد بعدما سحبت قوات الاحتلال جثامين الشهداء.

 يتدفق الفخر من قلب العارضة: “لم نتوقع أن ينفذ أخي عملية مقاومة، ولم نكن نعلم أنه ضمن صفوف المقاومين، كنت أشاهده يخرج لمشاهدة اقتحامات جيش الاحتلال، ولم أتخيل أن تصل به المرحلة أن يحمل البندقية بنفسه”.

كما تفاجأ بمقاومة شقيقه، تفاجأ بوجوده مع الشهيد منتصر سلامة، فالأخير لديه محال لبيع الهواتف بجوار بيتهم، ولم تتجاوز العلاقة التي شاهدها حدود الجيرة التي كان يعرف بها العارضة، “كنت أراه يجلس في محله، فتنفيذ عمل مقاوم يعني أن الصداقة كانت كبيرة بينهما”.

 قبل خمس سنوات توفي والد الشهيد العارضة نتيجة مضاعفات مرض القلب، والشهيد يعمل بمجال الحدادة، عمل بمستوطنة إسرائيلية قريبة من نابلس، وبسبب إعدام قوات الاحتلال لأحد الشبان داخلها ترك العمل، واتجه لورش الحدادة بمدينته، وهو متزوج ولديه طفلة رضيع “ريتال” بعمر ثمانية أشهر.

عرفه شقيقه أنه “كان إنسانًا رائعًا، ضحوكًا، لا يحب جرح الآخرين، وسيم يهتم بأناقته، لديه سيارة وبيت يعيش حياة كريمة، وبعد امتلاكهم لجأ للعمل الوطني لأن طموحه كبير، وكان طلبه الشهادة”.

من عائلة قدمت شهداء وأسرى وجرحى، سطع “نور الدين” فاستشهد عمه في ستينيات القرن الماضي، و”خالد” ابن عمه في الثمانينيات، ومطلع انتفاضة الأقصى 2000 استشهد ابن عمه “زاهي”.

بهجت ينتظر والده

لحظة وقوع الاشتباكات التي دوى صداها وأخبارها لداخل المدينة ووصلت لبهجت سلامة والد منتصر (33 عامًا)، ترحم على أرواح الشهداء، وانطلق لمصنعه (أقمشة) مع اقتراب الساعة من التاسعة صباحًا، حتى أنه لم ينتبه لصورة انتشرت على مواقع التواصل لنجله، إلى أن بدأت تتوارد أسماء الشهداء، وبدأت اتصالات الأصدقاء والأقارب تنهال عليه، ما دفعه للشك بحدوث شيء يخصه، حتى وقف أمام صدمة استشهاد ابنه البكر.

لدى منتصر محل هواتف فتحه بشكل منفصل حتى يؤسس مشروعه المستقبلي، ولم يعلم والده، أي شيء عن عمله المقاوم، فقد أخفاه تمامًا عنه، رغم” الحزن فإننا راضون بقضاء الله، وسائرون على الطريق” هذا ما قاله والده في مقابلة صحفية نشرت بعد استشهاد نجله.

 حتى الحادية عشرة مساء الاثنين، ظل منتصر يجلس في شقة والده، كلامه المعتاد، ابتسامته التي لا تفارقه، وسهرة اعتيادية لم تتخللها كلمات وداع أو مواساة تحفرها ذاكرة الأب المكلوم، جعلت المساء يمر طبيعيًا، ليحمل الصباحُ خبر الاستشهاد.

 “وين أبويا!؟”.. سؤال دار به الطفل بهجت (4 سنوات) بين أفراد عائلته، لعله يعثر عليه بين وجوه أعمامه وآخرين رآهم لأول مرة في بيتهم لا يعرف سبب قدومهم، باحثًا عن ملامح والده، وضحكته وحضنه الدافئ هو وشقيقته جنى (8 سنوات) وميرا (عامان)، فلم تجبه دمعة أمه التي لم يفهم سببها، ولم يدرك الطفل ما هي “الجنة” التي حدثوه أن والده انتقل إليها، فما زال ينتظر عودته على شرفة المنزل.