اخبار فلسطين

“السعدي” وحيد أمه قاوم مصابًا ووالد “عرعراوي” خرج من سجون الأجهزة الأمنية لوداع نجله

جنين قدس الإخبارية: تفتحت عيناه كوردة ربيعية، تشعُ منه ابتسامةً صافية ما أن خرج من غيبوبته ونطلق صوته وهو ينظر لأمه: “كيف حالك يما!؟”، فابتسم صوتها وهدأ قلبها كأنه عاد من الموت، بعد تعرضه لإصابة في بطنه في فبراير/ شباط 2023 أطلقها قناص إسرائيلي، ثم تغيرت ملامحها عندما قال لها وهو ممدد على سرير المشفى والألم ينخز صوته: “بدي أرجع للمقاومة” لتخرج عن صمتها: “ربنا شفاك .. خلص انتبه لصحتك”، فكانت نظرته أبعد مما توقعت أمه قائلاً بنبرة إصرار: “بدي الشهادة”. 

بجسد لم يتماثل للشفاء، كان محمود علي السعدي (23 عامًا) يحمل محلولاً متصلة بجسده التي اخترقته رصاصة، ويذهب للرباط أو لمواجهة الاحتلال، وفي كل مرةٍ كان يترك علامات الدهشة ترتسم على ملامحه أمه وهي تحاول ثنيه عن الخروج خوفا على حالته الصحية، حتى آخر لحظات حياته.

“قوات خاصة”.. قطعت صوت الإشارة التي وصلت السعدي محاولته الاغتسال واحتساء كوب من القهوة مع والدته وتناول طعام الغداء حينما عاد قبل السادسة من مساء 19 سبتمبر/ أيلول 2023 لمنزله الواقع بمخيم جنين شمال الضفة الغربية، وامتشق سلاحه وغادر على عجلٍ، لم يملك الوقت لأن يحاورها وطلب منها الرضا: “ادعيلي يما”.

ودعت وحيدها

انقطع التيار  الكهربائي عن المخيم، وانقطعت أخبار ما يجري في الخارج عن أمه التي كانت تراقب ما ينشر عبر الانترنت، كانت تحبس أنفاسها وتضع يدها على قلبها مع كل خبر، لم تفسر ما سبب هذا الخوف الذي يجتاح قلبها أيضًا، حتى تلقت اتصالاً من كنتها، وكانت نبرتها مرتبكة وهي تسألها: “وين محمود” برا؟ ليش في ايشي كأنه متصوب، لا محمود استشهد” بهذا حسم قلبها الذي استشعر بوجود أمرٍ ما الخبر.

وعلى غير العادة، تسللت قوة إسرائيلية خاصة إلى مخيم جنين في ساعات المساء الأولى، فاكتشفها المقاومون وخاضوا اشتباكا مسلحًا معها بعد محاصرتها، ما جعل الاحتلال يرسل تعزيز عسكرية،محمود علي السعدي (23 عامًا) ومحمود خالد العرعراوي (24 عامًا) فارتقيا شهيدين بساحة المخيم أثناء خوضهما اشتباكهما الأخير.

في بيت يضج بالمعزين كانت أمه تحاول التماسك وهي تلقي نظرة الوداع على جثمان وحيدها، في مشهد كانت توقن أنها ستعيشه وستتجرع مراراته، فنجلها كان مصرًا على نيل الشهادة التي كانت هدفا يراه من منظار بندقيته.

تتدفق كلمات الحب من قلبها في مستهل حديثها مع “قدس الإخبارية” قائلة: “كان حنونا ومؤدبا، الجميع يحبه، لم يزعل أي شخص، وعمل في عدة أعمال منها بيع الذرة، والعمل بمطعم للمأكولات، وآخر شيء كان يعمل (ديلفري) على دراجته النارية”.

كانت تدرك أن لحظة وداع وحيدها قادمة، ففي كل مرة كان يهيئ قلبها لذلك: “يما، بدي استشهد” ولم تدركِ صعوبة العيش في بيتٍ خال من حضوره وضحكته وصوته، فبقيت هي وأخته الشقيقة (مروة)، علما أن لمحمود أخ غير شقيق وأربع أخوات من والده.

سجن السعدي لدى الاحتلال عام 2019، لمدة عامين، تطل من الذاكرة على لحظة اقتحام البيت وهي تقلب شريط ذكرياتها: “كان محمود مستيقظا حينها، وسمع صوت جيش الاحتلال واعتقد أنهم جاؤوا لاعتقال ابن أخوه، وكان هو الهدف. كان المطر يتساقط وصادروا أيضا هاتفه”.

في بيت فارغ أمضت أول عامين في غياب نجلها عنها، وكانت تترقب بفارغ الصبر السماح لها بزيارته، إلا أن حرمت من الزيارة بحجة أزمة فيروس “كورونا” وغابت عنه لفترة طويلة. تداهمها ابتسامة ممزوجة بمرارة الفراق: “لما طلع استقبلته أحلى استقبال”.

في فبراير/ شباط الماضي، تعرض السعدي لإصابة خطيرة في بطنه عندما اخترقت رصاصة قناص جسده واستقرت بجسد صديقه محمد أبو الصباح الذي ارتقى شهيدا، فعاد لأمه كمن “يرجع من الموت” خاض  معركة مع الألم.

على مدار أسبوع كامل، لم تفارق والدة السعدي أبواب غرفة العناية المكثفة، تتعلق بخيوط الأمل وتناجي المولى عز وجل، فأجرى عدة عمليات ومكث بالمشفى عدة أشهر، كانت آخر العمليات في شهر مايو/ أيار الماضي في إغلاق شرايين مفتوحة.

يمتلئ صوتها بالفخر به وهي تعلق على خروجه للمقاومة وهو يحمل محلولا طبيا: “كنت أقول له بطنك مشوها، كيف تخرج بهذه الحالة؟، فكان يرد: “كله هدا جهاد في سبيل الله”.

خلال عدوان الاحتلال على مخيم جنين في 3 يوليو/ تموز الماضي، كان السعدي من الشباب الذي تصدوا للاجتياح، “عندما قصف الاحتلال أول صاروخ، خرج للمقاومة ورأيته وهو يتنقل من محيط البيت، كنت أتابع الأحداث بقلق وأخشى عليه، وبعد انسحاب الاحتلال جاءني، وكانت يده مصابة بشظايا صواريخ وقذائف أطلقها جنود الاحتلال”.

من القصص التي رواها لأمه، عن سير الأحداث خلال الاقتحام، أن قوات الاحتلال كانوا يخترقون أجهزة الاتصال اللا سكلي التي يستخدمها المقاومون ويطلبون منهم “تسليم أنفسهم”.

في مقابلة صحفية للسعدي مع قدس الإخبارية نشرت قبل استشهاده روى عن ظروف اعتقال قاسية لدى الأجهزة الأمنية وما أصدق تلك القصص التي يرويها الشهداء قائلاً: “مكثت ثمانية أيام بلا فرشة أو غطاء، في أجواء باردة، وكنت أتوضأ وأنا مقيد، وكذلك الحال عندما اريد الصلاة، فشعرت باكتئاب من شدة التحقيق على أشياء لم أفعلها، كنت أبقى أربع ساعات مشبوحًا، لم أكن أشعر بقدمي من شدة الألم والشبح”.

اعتقل السعدي لدى الأجهزة الأمنية في يناير/ كانون ثاني عام 2022 ومكث في سجن أريحا 75 يوما تعرض خلالها للتعذيب والشبح المتواصل، وعندما أفرجت عنه الأجهزة الأمنية كانت ملامحه مختلفة، فانخفض وزنه، وكانت حالته النفسية سيئة، “لم أستطع زيارته بهذه الحالة، وكان يطلب مني أن لا أزوره بسبب قصر مدة الزيارة وبعد المسافة ومعاناة الانتظار حتى يسمحوا لنا بزيارته”.

من عائلة خرجت الشهداء والأسرى، ورث محمود السعدي حب المقاومة، واقتدى بشهداء عائلته، ادخر مالاً من مصروفه ومن عمله واشترى بندقية خط بها طريق مواجهة الاحتلال، وخط حبه ووفائه لفلسطين ولمخيمه الذي دافع عنه.

تأثر باستشهاد ابن شقيقه عمر طارق السعدي في 29 يناير/ كانون ثاني 2023، وكذلك ابن شقيقته أشرف السعدي في 20 يونيو/ حزيران 2023، وقبلهما صديقه محمد الصباح. 

دموع مغمسة بالشوق

وقف خالد عرعراوي، أمام جسد نجله “محمود” وهو يلقي نظرة الوداع الأخيرة، كان عناق الأب لنجله مليئا بالشوق ومغمسا بطعم الحرمان، فلم يروِ أسبوع أمضاه معه ظمأ شوقه له بعد 63 يومًا غيبته فيها سجون الأجهزة الأمنية عن أولاده وأرضه الزراعية التي سهر نجله الشهيد على ريها وحرثها في غياب والده، فكان المعيل الأول للبيت بعده.

الرجل الذي كان يستقبل المهنئين بالإفراج عنه من سجون الأجهزة الأمنية، أيضًا بدأ يستقبل المعزين باستشهاد نجله في آن واحد، حتى أن الحيرة غلبت أحد المعزين: “مش عارف أقلك الحمد لله على سلامة الإفراج، أم نعزيك بفقدك لنجلك”.

صباح الثلاثاء (19 سبتمبر)، اصطحب محمود عرعراوي شقيقه كمال (17 عامًا) الذي أصيب بعينه وفقد نظره برصاصة قناص إسرائيلي خلال اجتياح الاحتلال للمخيم في 3 يوليو/ تموز الماضي، محاولاً التخفيف عن الآثار النفسية لشقيقه الذي لم يعد يرى ألوان الحياة بفعل جرائم الاحتلال، فاصطحبه إلى مطعمٍ وأمضى الشقيقان وقتًا مميزًا بالمخيم، وعادا مع ساعات الظهيرة.

يتكئ وجعه على الصورة الأخيرة لنجله وهو يتحدث لـ “قدس الإخبارية” قائلا: “خرج مرة أخرى مع ساعات المغرب، وانتظرته على شرفة المنزل، ثم اتصلت به فقال لي: “هيني مروح” طلبت منه عدم التأخر، وكان ابن عمه ينتظره معي، لم يمر وقت طويل حتى وردني خبر إصابته، فذهبت للمشفى ووجدته مستشهدا والشظايا تملأ جسده”.

لحظة الاستشهاد

ينقل عن شهود عيان رووا له ما حدث مع نجله ورفيقه السعدي، بأنهما وخلال بدء الاشتباك وكشف القوة الخاصة كانا يتواجدان في ساحة المخيم، وتوارا عن عيون طائرات الاحتلال، إلا أن رفيقه طلب منه الابتعاد عن عامود كهرباء خوفا من استهدافه، وخلال تحركهم استهدفت طائرة “درون” انتحارية “عرعراوي” فارتقى شهيدًا، فيما استشهد السعدي الذي كان يتواجد على بعد عشرة أمتار منه برصاص قناصة.

قبل اعتقاله لدى الأجهزة الأمنية، كان عرعراوي الأب منشغلا في السعي لعلاج نجله كمال حتى يستطيع الرؤية بعينه اليسرى، وأثناء عودته من مستشفى النجاح بنابلس إلى جنين خلال مرافقة نجله المصاب، داهمته قوة  خاصة على الطريق الواصلة بين عصيرة الشمالية وقرية جبع ونقلته لسجن “الحرس الرئاسي” بجنين.

على مدار ثلاثة أيام لم يعرف عرعراوي أين يتواجد، وكان بغرفة بمفرده تنام معه قوة من الحراسات الخاصة على مدار 24 ساعة، ولا يسمح لأي أحد حتى لو فرد أمن بالدخول إليه.

عن سبب الاعتقال، يرافق صوته القهر المتدفق من أعماق قلبه قائلاً: “الاعتقال كان بسبب سؤالي لقيادات من حركة فتح حضرت جنازة تشييع شهداء جنين بعد انتهاء اجتياح المخيم وسألتهم: “وين كنتم امبارح؟” وتبعها هتاف من الجماهير ضدهم، فحملت مسؤولية ذلك، ولدي صديق معتقل على نفس الأمر حتى اللحظة”.

بعد 15 يوما من الاعتقال، سمح لعائلته بزيارته مرة واحدة، فجاءت ا زوجته ونجله “محمود” لمقر حرس الرئيس بجنين، طمأنه نجله على أمور المزرعة وأنه يتكفل برعايتها وعلى حال كمال، وبعدها منع زيارته منعا كليا، وبقي وحيدًا لا يعرف أي شيء عن عائلته ولا حال نجله المصاب، “منعوني حتى من الحديث الهاتفي خمس دقائق”.

في غياب والده تحمل “محمود” مسؤولية البيت كاملة، فكان يذهب من الصباح لتفقد أرضهم الزراعية التي يتضمنها والده (استئجار) بمساحة أربع دونمات ويزرع الخيار في حمامات بلاستيكية.

بكلمات مليئة بالفخر بنجله يقول: “رغم أنه لا يملك خبرة كافية لتحمل مسؤولية الأرض مثلي، إلا أنه سدد بعض الالتزامات علينا، وكان يصرف على البيت وهذا أهم شيء، ولم تفسد الأرض، فأدى ما عليه فتحمل الحر والشمس”.

لم يهنأ عرعراوي مع ابنه “محمود” خلال أسبوع الإفراج عنه من الأجهزة الأمنية، فبينما كان الأب يستقبل المهنئين بالإفراج كان الابن يذهب للأرض ويعود ظهرا، ثم يذهب لأصدقائه ويعود مساءً، اختنق صوته بالدموع “كنت أقول له: دير بالك على حالك، خشيت عليه وارتقى شهيدا. لم أرتوِ منه ولم نجلس مع بعضنا”.