مقالات

برُّ الإخوة |

منزلةٌ عظيمةٌ، تبوَّأها الإنسانُ، وقد منحه الله إيَّاها، ووهبه المكانةَ السَّامية، إنَّها مكانة الأخ، الحصن والسَّد المنيع، منبع القوَّة والصَّلابة، الجبلُ الصَّامد الذي يتَّكئ عليه الأخ، سواءً الأصغر أو الأكبر، فهو الرُّكن الذي يحتمي به لمواجهة مصاعب الحياة، فبرُّه، والسؤالُ عنه، وزيارته، وتفقُّد أحواله وأموره كافة واجبٌ، ومشاركته تفاصيل حياته بحلوها ومرِّها، الصَّغيرة قبل الكبيرة، هو السَّند والعضُد، قال الله تعالى لسيِّدنا موسى عليه السَّلام: “سنشدُّ عضدك بأخيك”. وهذا دليلٌ على ما يحتلُّه من مكانةٍ، فهو الأقرب، والأصدق، والمخلص والمؤازر في السَّرَّاء والضَّرَّاء، يتغاضى عن هفواتك دون أن تنقصَ محبَّتك في قلبه، فهو قرَّة العين وبصرها.
أمَّا ما نراه اليوم من قطعٍ للرحم، وتنافرٍ وهجرانٍ بين الإخوة، فإنه يُدمِعُ العينَ، ويُدمي القلبَ لما آلَ إليه أحوال الإخوة، والقصصُ على ذلك كثيرة.
هناك أخوان، يسكنان البناء ذاته، أحدهما في الطَّابق الأرضي مع زوجته، وليس لديهما أولادٌ، والآخر في الطَّابق الأوَّل مع زوجته وأربعةٍ من الأولادِ، ومقتدرٌ مادياً، ويقال إنَّ هذه الزَّوجة تمنعُ زوجها من التَّواصل مع أخيه، حتَّى السَّلامُ! مَرِضَ الأخُ الذي في الطَّابق الأرضي، وسافر إلى الهند بقصد العلاج، وقد استدان من صديقه مبلغاً من أجل ذلك، وأخوه لا يعلمُ عن الحادثةِ شيئاً، لكنَّه توفِّي بعد عودته من الهند ببضعة أشهرٍ، وهنا بدأ برُّ أخيه، جاهداً لتجهيز وتحضير كل ما يلزم لأمور الدَّفنِ والعزاءِ، وتمَّت العملية خلال ساعتين، وحضرها كثيرٌ من المعزِّين. والسُّؤال الذي يطرحُ نفسه: ما فائدة هذا البرِّ بعد رحيل مَن هو أهلٌ للبرِّ، وأحقُّ به؟ لماذا لا نعلم البرَّ إلَّا في النهاية بعد فوات الأوان، فالمتوفَّى انتقل إلى عند ربٍّ رحيمٍ بعباده، أمَّا من بقي على قيد الحياة فعليه أن يُعيدَ النَّظر في علاقاته مع إخوته وأخواته، لذا نهى الشَّرعُ عن التَّدابر والهجر بين المسلمين، خاصَّةً الإخوة، فعن أنسٍ بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عبادَ الله إخوانا ولا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث”، وكلَّما زادت مدَّة الهجر، اشتدَّ الإثمُ، فمَن هجر أخاه سنةً، كان كمن سفكَ دمهُ.
الإخوة تربطهم صلةٌ وثيقةٌ، ورَحِمٌ أمر الله بصلتها تقرُّباً إليه، وسبباً من أسباب البركة في الرِّزق والعمر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: “من سرّه أن يُبسَط له في رزقه وأن يُنسَأ له في أثره فليصل رحمه”. دليلٌ واضحٌ على أنَّ الأخ أُنس النَّفس، سعادة الرُّوح، مُدخِل البهجة للصُّدور، ومُزيل الهموم عن القلوب، فالأخ هو رفيقُ العمر، ورابطة الأخوَّة، ورابطة الدَّم أقوى الرَّوابط، تجذب الإخوة لبعضهم فطرياً، فهو الظِّلُّ الذي نستظلُّ به، والحصن الحصين من نوائب الدَّهر. أدام الله علينا جميعاً إخوتنا وأخواتنا، ورزقنا برَّهم وودَّهم.