فنون

هل تحلم الحيوانات مثل البشر؟


بي بي سي


نشر في:
الثلاثاء 5 سبتمبر 2023 – 5:52 ص
| آخر تحديث:
الثلاثاء 5 سبتمبر 2023 – 5:52 ص

تتدلى عناكب قافزة صغيرة من خيوطها أثناء الليل داخل صندوق في مختبر. بين الحين والآخر، تلتوي أقدامها وترتعش مغازلها. وتتحرك شبكيات أعينها، التي يمكن رؤيتها من خلال هيكلها الخارجي الشفاف، إلى الأمام وإلى الخلف.

تقول الدكتورة دانيلا روسلر عالمة البيئة السلوكية بجامعة كونستانتس بألمانيا: “ما يحدث لتلك العناكب يبدو مشابها – إلى حد كبير – لما يعرف بـ نوم حركة العين السريعة”. خلال تلك المرحلة من النوم، تتحرك أعين الحيوان النائم بصورة لا يمكن التنبؤ بها.

وبالنسبة للبشر، نوم حركة العين السريعة هو أكثر مرحلة يرون خلالها أحلاما، ولا سيما أكثر الأحلام احتواء على تفصيلات تشبه الواقع. يقودونا ذلك إلى سؤال محير: إذا كانت العناكب تمر بمرحلة حركة العين السريعة أثناء نومها، فهل يعني ذلك أن ثمة أحلاما تتكشف في أدمغتها التي يبلغ حجمها حجم بذرة الخشخاش؟

أجرت روسلر وزملاؤها دراسة على العناكب ذات الشبكية الدوارة في عام 2022، حيث وضعوا كاميرات مراقبة فوق 34 عنكبوتا، ووجدوا أنها تمر بمراحل نوم تشبه مرحلة حركة العين السريعة كل 17 دقيقة تقريبا. كان سلوك حركة العين حكرا على تلك النوبات، إذ لم يحدث خلال الفترات الليلية التي كانت تتحرك فيها العناكب القافزة أو تتمطى أو تعدل من خيوطها الحريرية أو تنظف نفسها بأحد أرجلها.

رغم أن العناكب تكون ساكنة في الفترة التي تسبق النوبات التي تشبه مراحل حركة العين السريعة، لم يتمكن الفريق بعد من إثبات أنها كانت نائمة. لكن إذا ما تبين أن ذلك يحدث أثناء نومها، كما تقول روسلر، وإذا ما ثبت أن ما يبدو كحركة العين السريعة هو كذلك بالفعل، ستكون الأحلام احتمالا جليا. وتضيف أنه من السهل عليها تخيل أن العناكب القافزة، وهي حيوانات تعتمد على حاسة البصر بشكل كبير، قد تستفيد من الأحلام كطريقة لاستيعاب المعلومات التي تكتسبها خلال النهار.

وروسلر ليست الباحثة الوحيدة التي تحاول الإجابة على تلك الأسئلة التي تتعلق بحيوانات بعيدة كثيرا عن البشر في سلسلة التطور. فقد اكتشف علماء آخرون دلائل على مرور قطاع أوسع من الحيوانات بمراحل نوم حركة العين السريعة: العناكب والسحالي وأسماك الحمار الوحشي. وجعل ذلك الباحثين يتساءلون عما إذا كانت الأحلام، التي كان يعتقد في السابق أنها مقصورة على البشر، أكثر شيوعا مما كانوا يظنون.

يتسم نوم حركة العين السريعة بعدد آخر من الخصائص فضلا عن حركات العين السريعة: شلل مؤقت في عضلات الهيكل العظمي، ارتعاش متكرر لأجزاء الجسم، وزيادة في نشاط الدماغ ومعدلات التنفس ونبضات القلب. لوحظ ذلك النوع من النوم للمرة الأولى في الأطفال حديثي الولادة عام 1953، وسرعان ما رُصد في حيوانات أخرى كالقطط والفئران والخيل والخراف وحيوانات الأوبسوم والأرماديللو (المدرع).

كما أن أنشطة الدماغ خلال تلك المرحلة من النوم لها سمات مميزة، على الأقل لدى البشر. خلال المراحل التي لا تحدث فيها حركات العين السريعة، والتي تعرف بمراحل النوم الهادئ، تكون أنشطة الدماغ متزامنة. فالخلايا العصبية تطلق إشاراتها في نفس الوقت، ثم تتوقف، ولا سيما في القشرة الدماغية، محدثة ما يعرف بالموجات البطيئة من النشاط. في المقابل، خلال مرحلة حركة النوم السريعة، تظهر في المخ دفعات من النشاط الكهربائي الشبيهة بما يحدث أثناء اليقظة.

حتى بين الثدييات، لا تتماثل مراحل حركة العين السريعة. فقنافذ النمل، وهي ثدييات من مجموعة الحيوانات الكيسية أو الجرابية، تظهر بعض سمات نوم حركة العين السريعة والنوم الهادئ في نفس الوقت. وتشير الدراسات التي أجريت على الحيتان والدلافين (الدرافيل) أنها ربما لا تمر بمرحلة نوم حركة العين السريعة على الإطلاق، في حين أن الطيور تمر بتلك المراحل، والتي تتسم بارتعاش المنقار وارتخاء العضلة التي تمكنها من الإبقاء على رؤوسها مرفوعة.

وقد بدأ الباحثون يكتشفون حالات نوم مشابهة في العديد من الفصائل والأنواع الحيوانية.

في عام 2012، على سبيل المثال، رصد باحثون حالة تشبه النوم لدى سمك الحبار، وسلوكا يشبه نوم حركة العين السريعة: بشكل دوري، كانت أعين تلك الحيوانات تتحرك بسرعة وكانت أذرعها ترتعش وألوان أجسامها تتغير. وخلال منحة دراسية بمختبر الأحياء البحرية بوودز هول بولاية ماساشوستس الأمريكية، درست الباحثة المتخصصة في علم الأحياء السلوكي، تيريزا إغليسياس، تلك الظاهرة، وصورت ستا من أسماك الحبار على مدى ساعات طويلة.

الأسماك الست جميعها أبدت نشاطا يشبه ذلك الذي يحدث أثناء نوم حركة العين السريعة كل حوالي 30 دقيقة: نوبات من حركة الأذرع والأعين ظهرت خلالها أنماط وألوان عديدة على الجلد. كما أصدرت تلك الكائنات إشارات للتمويه ولفت الانتباه، وكلاهما يصدر ضمن سلوكها أثناء اليقظة. وبما أن دماغ رأسيات الأرجل تلك يتحكم في تغيير أنماط الجلد وألوانه بشكل مباشر، فإن ذلك “يشير إلى أن نشاط الدماغ خرج عن السيطرة إلى حد ما” أثناء النوم، كما تقول إغليسياس، التي تعمل الآن بمعهد أوكيناوا للعلوم والتكنولوجيا في اليابان.

وقد لاحظ باحثون فيما بعد حالة مشابهة لدى الأخطبوط. وتقول إغليسياس إنه إذا كان الأخطبوط والحبار يحلمان، “فإن ذلك إلى حد ما ينسف اعتقادنا بأن البشر كائنات متميزة للغاية”.

كما رصد الباحثون مرحلة تشبه مرحلة حركة العين السريعة لدى حيوانات التنين الملتحي من خلال تسجيل الإشارات الصادرة عن الأقطاب الكهربائية في أدمغتها. وأشاروا كذلك إلى وجود حالتي نوم على الأقل في سمكة الحمار الوحشي، استنادا إلى بصمات أدمغتها. في إحدى هاتين المرحلتين، يحدث النشاط الدماغي بشكل متزامن كما هو الحال بالنسبة للثدييات خلال مرحلة النوم الهادئ. في مرحلة أخرى، أبدت السمكة نشاطا عصبيا أشبه بذلك الذي يحدث أثناء اليقظة وفي مرحلة نوم حركة العين السريعة (لكن السمكة لم تظهر حركات سريعة للعين).

وبرصدهم عدة مراحل للنوم في قريب، بعيد للغاية للبشر من المنظور التطوري، أشار الباحثون إلى أن أنواع النوم المختلفة بدأت قبل مئات الملايين من الأعوام. ومن المعروف حاليا أن الذباب أيضا يستطيع أن ينتقل بين مرحلتين أو أكثر من مراحل النوم. أما الديدان الخيطية فتمر بمرحلة نوم واحدة على ما يبدو.

يدرس الباحثون احتمال رؤية الحيوانات للأحلام أثناء مرحلة نوم حركة العين السريعة لأن الكائنات تبدي أثناء تلك المرحلة سلوكيات شبيهة بسلوكياتها خلال اليقظة – مثل تغيير أنماط جلد الحبار أو اهتزاز مغازل العناكب. وقد لاحظت جيانينا أونغوريان عالمة النوم بمعهد ماكس بلانك للذكاء البيولوجي في ميونيخ وبكلية طب غوتينغين هي وزملاؤها أن حدقة عين الحمام تضيق خلال مرحلة حركة العين السريعة، تماما كما يحدث أثناء السلوك الغزلي لتلك الطيور. وتقول أونغوريان إن ذلك يثير تساؤلا عما إذا كان الحمام يحلم، أو بشكل ما يعيد خوض التجربة التي مر بها أثناء اليقظة.

كما رُبط بين مرحلة نوم حركة العين السريعة وبين إعادة عرض المواقف لدى بعض الحيوانات. على سبيل المثال، عندما فحص الباحثون النشاط الكهربائي في أدمغة الفئران النائمة التي كانت قد ركضت في متاهة أثناء اليقظة، لاحظوا إطلاق الخلايا العصبية إشارات تساعدها في تحديد الأماكن. كما رصدوا كذلك نشاطا في الخلايا العصبية مرتبطا بحركة العين. هذان الشيئان يشيران إلى أن الفئران ربما مرت بتجربة تشبه الحلم قامت خلالها بإجراء مسح للبيئة المحيطة، على حد قول أونغوريان.

وتضيف أنه إذا ما أُخذت تلك الدلائل في الحسبان، يمكننا أن نفترض أن الحيوانات ربما تحلم. “لكننا إذا ما نظرنا إلى تلك الأسباب كل على حدة، يتبين أن أيا منها ليس كافيا”. فنشاط المخ المرتبط بإعادة العرض لدى الفئران لا يحدث خلال نوم حركة العين السريعة فقط، كما تقول الباحثة. فهو يحدث كذلك خلال التخطيط أو أحلام اليقظة. والعلاقة بين نوم حركة العين السريعة والحلم ليست ثابتة بشكل قاطع: فالبشر يحلمون في مرحلة النوم الهادئ أيضا، وعندما استخدمت عقاقير لتثبيط نوم حركة العين السريعة في إحدى الدراسات، لم يمنع ذلك المشاركين من رؤية أحلام طويلة وغريبة.

وتضيف أونغوريان أنه في نهاية المطاف، يعرف الناس أنهم يحلمون لأنهم يستطيعون الحديث عن أحلامهم، “لكن الحيوانات لا تستطيع ذلك، وهذه أكبر مشكلة عندما نحاول التحقق من ذلك بشكل علمي دقيق”.

وما زال هناك جدل حول فائدة نوم حركة العين السريعة. يقول البروفيسور بول شو أستاذ علم الأعصاب بجامعة واشنطن بسانت لويس: “لا أحد يعلم بشكل قاطع وظيفة النوم – سواء في مرحلة حركة العين السريعة أم النوم الهادئ”. من بين الأفكار الأكثر قبولا هي أن نوم حركة العين السريعة يساعد الدماغ على تشكيل الذاكرة وإعادة ترتيبها، وتقول نظريات أخرى إن هذه المرحلة من النوم تساعد على نمو الدماغ وأنظمة حركة الجسم، كما تحافظ على الدوائر الكهربائية الضرورية لأنشطة اليقظة لكي لا تتدهور أثناء النوم.

تقول إغليسياس إنه إذا ما تبين أن الأنواع ذات الصلات النائية بالبشر داخل مملكة الحيوان تمر بمرحلة نوم حركة العين السريعة، فإن ذلك يشير إلى أن دورها، أيا كان، ربما يكون مهما للغاية.

لكن ليس كل العلماء مقتنعين بأن ما رصده الباحثون هو نوم حركة العين السريعة. يقول جيروم سيغيل المتخصص في علم الأعصاب والذي يعكف على دراسة النوم بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس إن هناك احتمالا أن الباحثين ببساطة يحققون تصورات مسبقة بشأن مرور كافة الحيوانات بمرحلتي نوم ويفسرون إحدى تلك المرحلتين على أنها نوم حركة العين السريعة. ويضيف أن بعض تلك الحيوانات، كالعناكب، ربما لا تنام من الأساس: “ربما تفعل الحيوانات أشياء قد تبدو مماثلة، لكن التركيب الفسيولوجي ليس مماثلا بالضرورة”.

يواصل الباحثون التنقيب عن مفاتيح حل لهذا اللغز. ويسعى فريق روسلر إلى تطوير صبغات تمكنهم من التقاط صور لأدمغة العناكب ربما يظهر فيها نشاط في المناطق التي تشبه تلك التي نستخدمها عندما نحلم. وزرعت إغليسياس هي وآخرون أقطابا كهربائية في أدمغة رأسيات الأرجل وسجلت النشاط الكهربائي الذي يحدث أثناء حالتي نوم – إحداهما تظهر نشاطا شبيها بذلك الذي يحدث أثناء اليقظة، وأخرى تتسم بالهدوء، وكانت بصمات الخلايا العصبية شبيهة بتلك التي رُصدت في الثدييات. ودربت الدكتورة أونغوريان الحمام على النوم في جهاز لأشعة الرنين المغناطيسي، ووجدت أن الكثير من مناطق الدماغ البشري التي تضيء في مرحلة نوم حركة العين السريعة تنشط أيضا لدى الطيور.

ويقول دكتور ديفيد إم بينيا-غوزمان المتخصص في الفلسفة بجامعة ولاية سان فرانسيسكو ومؤلف كتاب When Animals Dream: The Hidden World of Animal Consciousness (عندم تحلم الحيوانات: العالم الخفي لوعي الحيوان) إنه إذا كان الحبار والعنكبوت وطائفة عريضة من الكائنات الأخرى تحلم، فإن ذلك يثير أسئلة مهمة حول ما يحدث لها بالضبط. ويضيف أنه بما أن الأحلام تحدث من منظور من يراها، فإن الحيوانات الحالمة لابد وأنها تمتلك القدرة على رؤية العالم من وجهة نظرها.

ويقول غوزمان إن رؤية الأحلام تشير أيضا إلى أنها ربما لديها قدرة على التخيل: “نحن نريد أن نعتقد أن البشر وحدهم هم القادرون على الانفصال لبعض الوقت عن العالم.. ولكن ربما سيتعين علينا أن نفكر أكثر قليلا في الحيوانات الأخرى”.