اقتصاد

محمود محيي الدين يكتب: هذا النظام المالي العالمي… رسائل باريس



نشر في:
الأربعاء 28 يونيو 2023 – 6:18 م
| آخر تحديث:
الأربعاء 28 يونيو 2023 – 6:19 م

انتهت منذ أيام قمة باريس التى عُقدت بمشاركة نحو 50 من قادة الدول، ومشاركين من المنظمات والمؤسسات الدولية ومسئولى القطاع الخاص والمجتمع المدنى، من أجل ميثاق مالى عالمى جديد. وطرحت فكرة هذه القمة فى شرم الشيخ أثناء انعقاد قمة المناخ السابعة والعشرين التى رأستها مصر فى نوفمبر (تشرين الثانى) الماضى، فى الجلسة التى شاركت فيها رئيسة وزراء بربادوس ميل موتلى، مع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون. وبعد 6 شهور من الإعداد والأخذ والجذب حول الترتيبات والأولويات لقمة باريس، سلطت أنظار المتابعين على الجلسة الختامية التى أدارها الرئيس ماكرون، مؤكدا فيها أكثر من مرة أنه يعرض نقاط توافق ككاتب للجلسة، مستدعيا إلى الأذهان الصورة الشهيرة للكاتب المصرى الجالس القرفصاء. وهى صورة ليست بعيدة عن دلالة لتاريخ تطور العمل الدولى المشترك، ومدى نجاح ــ أو إخفاق ــ دبلوماسية القمم فى تحقيقها لما تهدف إليه.
وهناك مبالغة فى وصف مجموعة الترتيبات المختلفة المعمول بها، والتى تشكل المعاملات المالية الدولية، بأن نعتبرها نظاما أصلا. وهى الملاحظة ذاتها التى ساقها أندرو كروكيت فى عام 2009، بعد الأزمة المالية العالمية ــ أثناء شغله لمنصب المدير العام لبنك التسويات الدولية ــ مطالبا بإصلاحات، ولكنه توقع أن النموذج المتبع سيستمر مع زيادة نسبية فى دور القواعد الرقابية، وهو ما حدث بالفعل، رغم مطالبات لم تكن الأولى من نوعها، لإحداث تغيير جذرى سعيا لنظام مالى مكتمل الأركان.
ولكن، هل يمكننا افتراض الاستفادة من دروس الأزمات السابقة، وأنه ستترتب على هذه القمة تغيرات ملموسة فى «نظام» التمويل الدولى الراهن؛ ناهيك من إجابة العنوان ذى الدلالة الذى طرحه موقع «بروجكت سينديكيت»: «هل ثمة ثورة تمويل فى باريس؟» وإجابتى: لا! وأرجو مخلصا أن تثبت الأيام القادمة خطأ هذا التقدير. فالثورة بما تعنيه من انتقال النظام المالى العالمى الراهن إلى نظام جديد أكثر كفاءة وعدلا، أو على الأقل تحقيق نقلة نوعية فى إطار النظام المالى العالمى الراهن، تتطلب مزيدا من الطموح والإجراءات العملية لتحقيقها، مساندة بمناخ سياسى مواتٍ.

بعض الرسائل الإيجابية من باريس
كانت أولويات التمويل تعانى من غموض غير مبرر، بسبب ما تم إقحامه عمدا من جدل بأن العمل المناخى يتعارض مع تحقيق التنمية المستدامة، والعكس. وقد أكدت قمة شرم الشيخ أن العمل المناخى ينبغى إدراجه وفقا لنهج شامل لتحقيق الاستدامة. وقد ذكرت فى إطارها أن «لا خير فى عمل مناخى يزيد الفقر ويسبب البطالة ويعوّق النمو». ويبدو أن هذا النهج الذى تبنته بداية البلدان النامية وجد صدى قد انعكس فى المقال الذى صدر بتوقيع الرئيس الفرنسى ومعه 12 من قادة دول العالم المشاركين، ممثلين لاقتصادات نامية ومتقدمة، أكدوا فى مقالهم المعنون «انتقال أخضر لا يستثنى أحدا»، تشابك الأزمات والصدمات التى سببت زيادة الفقر والديون وتفاوت الدخول وتدهور المناخ… واتفقوا على العمل معا للتصدى لها.
ومن الإيجابيات التى جرت على هامش الاجتماعات، ما تم إعلانه من تمويل للسنغال بمبلغ 2.5 مليار يورو، من خلال مبادرة الانتقال العادل للطاقة التابعة لمجموعة الدول السبع، على مدى 3 إلى 5 سنوات. وإن كان المطلوب أيضا لعموم أفريقيا الاستثمار فى صناعات تتطلب تخفيض الكربون فيها، مثل الصلب والأسمدة والإسمنت وغيرها، وهو مطلب لم تتحرك مجموعة الدول السبع قدما فى تنفيذه أو حتى دراسته بموضوعية، رغم نتائجه الواعدة.
وقد تم الإعلان أيضا عن نجاح زامبيا فى التوصل لاتفاق لمعالجة ديونها الخارجية، وفقا لآلية مجموعة العشرين، بعد جهد مضنٍ استمر لسنوات، تقوم بمقتضاه بإعادة هيكلة نصف مديونيتها البالغة 13 مليار دولار.
وكانت هناك فاعليات تعكس تطورا لدور المشاركات مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدنى، فى العمل المناخى والتنمية، شملت أسواق الكربون، والهيدروجين الأخضر، ومبادلة الديون باستثمارات فى مجالات التخفيف والتكيف والطبيعة، فضلا عن استعراض أدوات جديدة للتمويل والائتمان الميسر، ومخاطر الاستثمار، وزيادة عوائده، قدمتها المؤسسات المالية الدولية.

مطالب تستدعى العزم فى متابعتها
ظهر جليا التنسيق بين قادة البلدان النامية، وخصوصا الأفريقية، فى مطالبهم المحددة فيما يتعلق بتخفيض الديون وزيادة التمويل والتعاون التكنولوجى وزيادة فرص التجارة، مع أهمية التزام الدول المتقدمة بتعهداتها، خصوصا بالنسبة لتمويل التنمية والعمل المناخى، مع توضيح تفصيلى لما تحقق من التزام فعلى بالتعهدات. وقد انعكس ذلك بالتأكيد فى تلخيص الجلسة الأخيرة على إصدار تقرير أداء نصف سنوى.
رغم شمول قمة باريس خطوات فى الاتجاه الصحيح؛ لكن تحديات وفرص عالم اليوم تتطلب ثباتا لتجاوز عقبات التنمية المستدامة؛ فقد تجاوزنا منتصف الطريق زمنا لتحقيقها، فإذا بالعالم ينجز فقط أقل من 15 فى المائة من الأهداف، بينما أكثر من 50 فى المائة من الأهداف بعيد عن المسار المطلوب، و30 فى المائة منها أسوأ مما كان عليه الوضع فى عام 2015، عندما دشنت هذه الأهداف ومعها اتفاق باريس للمناخ الذى يعانى من بطء التنفيذ رغم كثرة التعهدات.
هذه الأهداف تستلزم علاجا فوريا لأزمة الديون التى تعانى من حدتها البلدان النامية، بما فيها من يلتهم خدمة الديون ومخصصات التعليم والصحة، فضلا عن التصدى لتداعيات تغيرات المناخ على عموم الناس وحياتهم وأسباب معيشتهم.
ولن يتصدى لهذه التحديات عالم تعانى مؤسساته المالية الدولية من انخفاض لرءوس أموالها، تعجز معه عن تلبية احتياجات تمويل المناخ والتنمية، ما يجعل كثيرا من الافتراضات المطروحة فى باريس عن قدرة هذه المؤسسات للقطاع الخاص، وتخفيض المخاطر، واستخدام أساليب الابتكار المالى، إلى غير ذلك، ضربا من الخيال. ففى عالم المال؛ الصغيرُ ليس جميلا دائما، وفجوات التمويل التريليونية لن تجسرها وعود بمليارات محدودة، وهى إنْ أتت تأتى متناثرة وعادة متأخرة.

نقلا عن «الشرق الأوسط»