منوعات

قبل 50 عاما.. كيف كان السجناء يقضون شهر رمضان خلف الأسوار؟

قراءة: أحمد الجمَّال

 

كيف كان يقضى السجناء شهر رمضان الكريم خلف الأسوار قبل أكثر من نصف قرن؟ هذا ما رصدته آخرساعة فى تقرير نشرته على صفحاتها فى عام 1959، من داخل سجن القاهرة، من الصباح الباكر وحتى انطلاق مدفع الإفطار،ثم تناول الطعام والصلاة، انتهاء بالخلود إلى النوم فى الساعة التاسعة مساءً.

 

التفاصيل نعيد نشرها بتصرف محدود فى السطور التالية:

 

ماذا يدور فى سجن القاهرة هذا الشهر؟ كيف يعيش ثلاثة آلاف سجين وراء الأسوار فى رمضان؟ إن سجن القاهرة سوف يستهلك فى شهر رمضان 750 كيلو من الياميش والمكسرات وقمر الدين، إذ إن نسبة الصائمين فى السجن هذا العام زادت 25%.

 

لقد أثبتت إحصائية سجن القاهرة أن الجرائم تقل فى شهر رمضان بنسبة 25%، أما حوادث المشاغبات المتعددة داخل السجن فقد انعدمت تمامًا، فلم يسجل منها محضر واحد خلال هذا الشهر، كما أن عدد المصلين يزداد بنسبة 38%، وينعدم الخطأ فى العمل وترتفع نسبته إلى 44% بين جميع النزلاء، وعدد الذين يُفرج عنهم يوميًا يتراوح بين 25 و30 نزيلًا فى اليوم، والذين يدخلون السجن تقل نسبتهم فى شهر رمضان إلى حوالى 28%.

 

الصباح في السجن

 

الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والعشرون.. الصمت يخيِّم على السجن.. لا تسمع سوى صوت أقدام الحراس وهم يدورون فى أماكنهم، والبنادق على أكتافهم.. وهواء الصباح رطب.. والجندى زكى مصطفى إسماعيل نفسه يشرب فنجان شاى وسيجارة هوليوود، فهو صاحب مزاج، وإن كان بينه وبين مدفع الإفطار عشر ساعات.

 

ويدق الجرس الكبير الذى يتوسط العنابر الستة، ويتردد صداه فى الهواء والحجرات.. ويقرع السجان الأبواب، فيستيقظ 3153 مسجونًا، وتبدأ 6306 أيادٍ فى ترتيب الفراش وغسل الوجوه.. إن 25% منهم يفتحون أعينهم بشرب سيجارة على الريق، والحركة كالسوق تمامًا.

 

أصوات وجلبة، وعم حسين العجوز يقول: ايا ناس خلى عندكم إيمان.. والله الصلاة والصوم لهم فايدة كبيرة يا رجالة وتتوه الكلمات ويرجع الصمت من جديد، وكلمات االشاويشب السجان تدوي: اأتلم أنت وهو فى الطابور.. بلاش كسل خلينا نخلص بسرعة.. الواحد صايم ومش عايز وجع دماغب!

 

العاشرة صباحًا

 

إن المذنبين فى سجن القاهرة ينقسمون إلى قسمين: الذين هم تحت التحقيق، وهؤلاء غير مقيدين بأى عمل.. ويقضون الصباح فى الطوابير العسكرية وتمرينات التربية البدنية. أما المحكوم عليهم بعقوبات، فهؤلاء يوزعون بعد طابور الصباح، على الجامعة الشعبية والمطابخ.. ويُراعى فى هذه التوزيعات رغبة المسجون ونوع الصناعة أو العمل الذى كان يزاوله قبل دخوله السجن.. أما الذين لم يسبق لهم القيام بأى عمل، فهؤلاء يلحقون بالورش الفنية أو الأعمال اليدوية التى لا تحتاج إلى خبرة.

 

وقادنا اليوزباشى سمير قلادة، معاون السجن، إلى الأماكن التى يقضون فيها أوقاتهم، بين ورش التأهيل المهني، والجلود والرسم والتطعيم بالصدف.. ورأينا مكتبة السجن وهى تحتوى على أحدث وأحسن الكتب الدينية والتاريخية والأدبية والقانونية.

 

ويقول اليوزباشى سمير قلادة: اإن ساعات العمل فى رمضان تقل ساعتين، فتصبح أربع ساعات للعمل فقط.. وبعد انتهاء هذه الساعات فإن السجين حرٌ فى أن يذهب كيفما يشاء.

 

قصة من الماضى

الساعة الثانية عشرة والنصف.. انتهت صلاة الظهر، وجلس حوالى 250 مسجونًا فى صالة الوعظ الكبيرة.. ووقف الشيخ محروس محمود واعظ السجن يقول: ابسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين.. التائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له.. وشهر رمضان شهر مبارك كريم، يصوم فيه الإنسان عن الأكل والمعصية.. والصوم عن المعاصى وارتكاب الذنوب، له من الحسنات الشيء الكثير.. والله يقبل التوبة.

 

 

ويتكلم الخطيب، والآذان تسمع والعقول تفكر وقطرات من الدموع تتساقط، ولحية بيضاء فى الركن البعيد تسرح فى الكلمات.. تسرح فى الماضي.. فى القصة التى حدثت منذ 7 سنوات.. إن المذنب أحمد أبوليلة نفادي، من ريانة الهويدى مركز طهطا، يتذكر قصة زوجته وابنته! الزوجة التى أحبها والتى تركته فى يوم مع ابنتها إلى مكان لا يعرفه، ومرت الأيام، وجاءه بعض المعارف ليقول له: امراتك ماشية فى البطال هى ومقصوفة الرقبة بنتكب!، وغلى الدم فى عروقه، وترك كل ماله وأرضه، وركب القطار، وقابلها وأحضرها إلى البلدة.. وهربت مرة أخرى، فسافر إليها من جديد، وعاد وكانت مع ذكرى الزوجة والابنة.. عاد وعلى جلبابه قطرات من دم أحمر، لقد أحس بالارتياح تمامًا بعد أن غسل عاره بيده.

 

ويقول الرجل: اأنا قبلت توبتها فى أول مرة.. كان نفسى تعيش معايا زى الناس، وكلنا رجالة، مش عارف أيه اللى بيخلى الست تهرب من جوزها.. مش عارف يا افنديب!

 

لم يحصلوا على البراءة 

الساعة الثانية تماما.. ينتهى العمل فى جميع الورش وكافة الأعمال.. ويعودون إلى العنابر.. وفى نفس الوقت يفتح الباب الكبير للسجن، ويستقبل العائدين من المحاكم الذين تحت التحقيق.. إنهم يموتون وفى عقل كل منهم حلم أن يستخدم المحامى براعته ويؤثر بكلامه فى القضاة، فيصدر الحكم ببراءته!

 

أما الذين أدينوا وحُكِم عليهم بالسجن، فتبدأ راحتهم من الساعة الثانية بعد الظهر.. بعضهم يذهب إلى االكانتينب لشراء ما يلزمه من الصابون والسجائر.. وآخرون يذهبون إلى حجراتهم، ويجلسون على أسرتهم مع زملائهم، أو يسرحون بخيالهم فى أيام زمان قبل أن يدخلوا السجن… والصائمون فى هذه الساعة يحل بهم التعب.. ويذهب كل منهم إلى سريره ليستريح حتى تحين ساعة الإفطار!

عيد الأم

 

الساعة الرابعة.. فى قاعة الاحتفالات بسجن القاهرة، تجرى البروفات بنشاط لإنهاء اللمسات الأخيرة من مسرحية االجنة تحت أقدام الأمهاتب.. إن المخرج والممثلين جميعًا من النزلاء، وكذلك كاتب القصة!

 

وفى مكان آخر، كانت تجرى بروفة لأغنية جديدة بمناسبة عيد الأم.. ويقول النزيل أحمد منصور فى كلمات الأغنية: اطول عمرى باحبك/ وهواكِ فى دمي/ وهنايا فى حبك/ يا حبيبتى يا أمي/ طول عمرى أتمنى/ اللى بيرضيكي/ علشان الجنة/ دى بساط رجليكي/ وأنا نفسى أنولها/ برضاك وأطولهاب، ومن الغريب أن المغنى والملحن من نفس نزلاء السجن، إذ إن سجن القاهرة يعتمد فى إقامة حفلاته الموسيقية والتمثيلية على النزلاء أنفسهم.

 

مدفع الإفطار

وفى الساعة السادسة إلا خمس دقائق تحس أن الحركة التى تملأ السجن طوال النهار، أصبحت ساكنة، إذ لا تسمع إلا أصوات الحراس وهم ينادون.. والكلام بين النزلاء أصبح قليلا.. افيه تعب وإرهاقب.. والأفواه فى انتظار الطعام.. إنه الشيء الذى يُسكِت المعركة التى تنشب فى المعدة.

ويضرب المدفع.. ويقوم فريق إلى الصلاة.. وتنحنى رؤوس العتاة على الأرض.. تستغفر الله وتتوب إليه.. وتبدأ الأيدى فى التهام الطعام الذى يتكوَّن من الكباب والمكسرات والفواكه، ثم يستريحون بعد تناول الطعام، أما أصحاب المزاج فإنهم يذهبون للتدخين وشرب الشاي، ثم تعود حركة الأجسام والأفواه، وتسمع القصص.. قصصا من الحياة.. من المجتمع.. من الناس الذين دخلوا السجن!

 

وفي الساعة التاسعة تماما.. تهدأ الأصوات، وتطفأ الأنوار، وترتاح الأجساد على فراشها.. ويعود الصمت من جديد ولا تسمع سوى أصوات أقدام الحراس.