منوعات

نوستالجيا 2

نوستالجيا 2
نوستالجيا 2

الكاتب الصحفي: محمد السكري مصر خاص بـ ” ”

 وقف أبي منحنياً  أمام المرآة وهو يعقد ربطة عنقه ثم إعتدل ليرتفع صوته يحث أمي أن تسرع حتي لا يتأخرا عن الميعاد ، فجاءت  من أقصى الدار تسعى وقد تهندمت وتزينت بقصة شعر à la garçon والتي كانت منتشرة في ذاك الزمن ، يبدو أنهما في طريقهما للسينما رغم إدّعاء أمي أنهما ذاهبان لزيارة عمتي الحاجة …..(نسيت إسمها) ، نظر لي أبي نظرة ذات معنى وهو  يحذرني من إرتكاب أي حماقة، وأن أطيع جدتي وألا أزعجها ،أومأت برأسي بالموافقة وأنا أشيح بنظري بعيداً .
أجلستني الجدة الطيبة بجوارها وهي تمسح على رأسي ،رائحة السمن البلدي تفوح من يدها فتثير غثياني ، بدأت تحكي لي حدوته “أمنا الغولة”  ولا أعرف لماذا أنّثوا رمز الخوف والشر و لم يكن أبونا الغول مثلا ؟ ما علينا ،لقد حكت لي جدتي نفس الحدوته عشرات المرات دون أن تكلف نفسها النظر لوجهي لترى ما علي ملامحي من علامات التأفف والضجر الممزوجة بالرعب الطفولي المفتعل .
 :وتوته توته فرغت الحدوته، إستني أما أجيب لك بأه حاجة حلوة .
قامت وهي تستند علي الجدار حتى فتحت أحد الأدراج ثم أخرجت منه قطعة حلوي يبدو أنها متبقية من “مولد النبي” الذي مر عليه عام ونصف، لم أستطع قضم الحلوي بأسناني الصغيرة فتحيٌنتُ فرصة انشغالها وألقيتُ بها تحت السرير ألقيت بالحلوى وليس بجدتي. ظلت تمسح على رأسي وهي تترنم بكلمات أظن أنها أغنيه للأطفال كانت تطلب مني فيها  أن أنام حتى تدبح لي جوزين حمام ، ولا أعرف ماذا أفعل بالحمام بعد أن أنام ،ويبدو أن مفعول الترانيم إنعكس عليها  فقد كنت أري بؤبؤ عينيها يسافر بعيداً ليختفي تحت جفنيها ثم يعود لمستقره بسرعة  كمن عاد فجأة  للحياة  ،ولكن في النهاية خسرت المعركة وخارت قواها فنامت و يدها فوق رأسي.
أطبق الصمت على الغرفة، ضوء مصباح الكيروسين المتراقص  يسقط على بعض الأشياء فينعكس الظل المتحرك على الحائط فتحسبه أشباح استدعتها حدوتة جدتي
 تلفّتُ يمنة ويسرة  دون أن أحرك رأسي المثبتة تحت يد جدتي ، فكرتُ قليلاً ثم قررت الإنسحاب من تحت ذراعها للبحث عن المجهول في أدغال الدار،  كنت أقذف بقدمي غاضباً كل ما يقع في طريقي وبقيت هكذا أدور هنا وهناك حتي وجدتني فجأة  أمام غرفة والدي والتي كان محرمُ على من هو مثلي دخولها وكأنها دار عبادة وأنا الطفل العاصي المنحرف، لذلك قررت أن أتحدي الآلهة وأن أقتحم قدس الأقداس وليكن ما يكون ولتغضب السماء كيف تشاء. فتحتُ الباب فأصدر صريراً مزعجاً خفت أن تستيقظ على إثره جدتي، خطوت داخل الغرفة، تملكني شعور غريب وخُيل الي إني أسمع صوت أذان وأجراس ترتفع من تحت السرير  ، فكرت للحظة أن أعبر عن غضبي بأن أقفز فوق السرير بقدمي المتسخه ،أو أن ألقي الوسادة علي الأرض ، ولكن في النهاية قررت أن أفتح دولاب الملابس هذا العالم السحري الذي لا اعرف عنه شيئاً.
: يا نهاااار ، كل دي ملابس و كرافتات ،؟ قلتها وأنا أقف على أعتاب الدولاب أنظر لأعلي حيث ملابس أبي المعلقة بعناية شديدة ،فتحت الأدراج ممممم،  جوارب ،عطور ، صور ، محفظة نقود… . خرجت من الدولاب متجهاً الي” التسريحة” أدوات تجميل خاصة بأمي و بعض الأدوية  ،ومقص ممممم لا بأس
لا أعرف كم مضى عليّ من الوقت وأنا في المحراب الذي تحول إلى مغارة،  وفجأة لاحت مني التفاتة للمرآة لأرى شبح خلفي يشبه أبي ولكن بعيون أوسع وأنف أطول ،التفتُ والرعب يسيطر عليّ حتي كاد سروالي أن يبتل، وضعت كفي الصغير علي فمي اكتم صرخة خوف وطلباً النجدة ، إكتشفت أن الشبح هو أبي بشحمه ولحمه يا للهول ليتني صرخت ، أنتظرتُ منه عملاً عدوانياً ترفضه منظمات حقوق الإنسان والحيوان، ولكنه لدهشتي تسمّر  في مكانه وهو يحدّق في وجهي، ودون أن يتفوه بكلمة واحدة أشار لوجهي بإصبعه الطويل حتى خلته سيضعه في أم عيني.
 : ما هذا، من فعل بك ذلك،و متي وكيف؟
 أجبته بكل براءة وثقة :أنا طبعاً
  ألم تخف ؟
+ لا مخفتش، عادي اهو
ظل أبي يرغي ويزبد ويضرب كفاً بكف إلي أن جاءت أمي والتي ما إن رأتني حتي أصدرت صرخة عالية أيقظت جدتي التي جاءت تهرول وهي تسأل : في ايه يا ولاااااه مالكم كفي الله الشر ؟
وقف الثلاثة يبحلقون في عيني وقد أصبحت مثل عين السمكة بعد أن قمت بقص رموشها من جذورها بمنتهى الهدوء والحرفية  .
لماذا فعلت ذلك ؟ لا أعرف، ربما هو الفراغ، وربما كنت أعبر عن غضبي من والداي بهذه الطريقة ،وربما كنت ملبوس بعفاريت حواديت جدتي أم كامل .