اخبار المغرب

الأزمة السياسية في النيجر .. ظاهرة بنيوية بسياقات تاريخية وتداعيات دولية

قال عبد الله بوشطارت، باحث في تاريخ الصحراء والساحل، إن الانقلاب العسكري بالنيجر شكل صدمة سياسية كبيرة للأنظمة الغربية، فرنسا وأمريكا، رغم تطور أجهزتها الاستخباراتية.

وبسط الباحث ذاته ضمن مقال توصلت به هسبريس، معنون بـ”الأزمة السياسية في النيجر.. سياقات وتداعيات”، أسباب هذا الانقلاب، عبر التوغل في أصوله التاريخية داخل النسق السياسي النيجيري، كما رصد مساراته وامتداداته داخليا وإقليميا ودوليا في بلد موسوم بفقدان الثقة في الأحزاب والحنين إلى حكم العسكر.

هذا نص المقال:

فاجأ الانقلاب العسكري في النيجر ليلة 26 يوليوز الماضي جل المتتبعين والمراقبين والمهتمين بقضايا الساحل والصحراء وإفريقيا بشكل عام، فقد كان هذا البلد بمثابة جزيرة سلام واستقرار وسط بحر هائج بالانقلابات العسكرية والتمردات السياسية، تهدده عواصف الإرهاب والحركات الإسلامية المتطرفة التي تشن غارات شبه يوميه على أطرافه وضفافه؛ جراء ما تعيشه كل من مالي وبوركينافاسو وتشاد وليبيا والسودان، من فوضى سياسية وحروب شاملة بين تيارات عسكرية ومجموعات إثنية متصارعة في ما بينها حول السلطة والريادة.

وإن كان عنصر المفاجأة أساسيا ومهما في إنجاح الانقلابات العسكرية، إلا أنه في حالة النيجر، وبالنظر إلى أجواء الاستقرار السياسي التي ينعم بها هذا البلد الساحلي والصحراوي في السنوات الأخيرة، والرهانات الجيو- إستراتيجية للدول الغربية، أوروبا وأمريكا بالخصوص، على التجربة السياسية لهذا البلد، ليكون أنموذجا للحكم المدني والانتقال الديمقراطي وسط ما تعيشه بلدان الساحل والصحراء المجاورة من اضطرابات وتحديات الأمن والاستقرار، فإن هذا الانقلاب شكل حقيقة صدمة سياسية كبيرة للأنظمة الغربية، خاصة فرنسا وأمريكا، رغم تطور أجهزتها الاستخباراتية. فالنيجر تعتبر قاعدة إستراتيجية مهمة للدول الغربية، وقد قامت هذه الأخيرة، خلال السنوات الماضية، بعدة مبادرات ومشاريع مختلفة، تجلت أساسا في عقد شراكات واتفاقيات عسكرية واقتصادية وتجارية مهمة مع دولة النيجر في الدعم العسكري واللوجيستيكي من أجل مكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة، عن طريق التدريب والتكوين، وإنشاء قواعد عسكرية؛ إضافة إلى المصالح الاقتصادية التي تربط فرنسا بالنيجر من خلال استغلال “اليورانيوم” في مناطق الشمال منذ عقود.

لذلك، سنحاول في هذه الورقة السياسية بسط أسباب هذا الانقلاب، عبر التوغل في أصوله التاريخية داخل النسق السياسي النيجيري، ورصد مساراته وامتداداته داخليا وإقليميا ودوليا، لتشكيل صورة شاملة، تساعدنا على فهم ما يعتمل داخل هذا البلد الإفريقي.

الانقلابات العسكرية في النيجر: ظاهرة بنيوية في النسق السياسي

حصل النيجر على الاستقلال يوم 3 غشت 1960 من فرنسا التي كانت تستعمر جل دول الصحراء الكبرى والساحل، وعين “ديوري حماني” رئيسا للدولة، باعتباره رئيسا للحزب التقدمي النيجيري PPN، الذي فرض نفسه كحزب سياسي وحيد في البلاد قبيل الاستقلال، وهيمن على جميع المؤسسات الانتخابية والعمومية، وواجه خصومه ومعارضيه بقساوة وعنف، بعد أن بسط سيطرته على جميع مناطق البلاد. وحكم الرئيس “ديوري حماني” بنظام الحزب الواحد، من سنة 1960 إلى سنة 1974 عشية انقلاب عسكري ضده، قاده الجنرال “ساني كونتشي” يوم 14 أبريل 1974. واعتبر ذلك أول انقلاب عسكري في النيجر، وجاء كنتيجة موضوعية لما يعيشه البلد من أزمات اقتصادية واجتماعية، جراء الجفاف الذي ضربه وكل بلدان الصحراء والساحل سنة 1973، وتسبب في مجاعة خطيرة، أودت بحياة الآلاف من المواطنين، وفي نزوح جماعي للسكان، خاصة في المناطق الصحراوية التي تغطي أكثر من 70% من مجموع مساحة البلاد. هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي سادت في النيجر مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي عجلت بسقوط نظام الحزب الواحد للرئيس “ديوري حماني”، الذي احتكر السلطة والنفوذ بشكل مطلق، ومنع تأسيس الأحزاب والجمعيات، واستفرد حزبه بجميع السلط داخل الدولة، فمن بين 12 عضوا المشكلين لهيئة المكتب السياسي لحزب PPN يتولى 10 مناصب رفيعة في الدولة. ورغم إجراء انتخابات في موعدها على رأس كل خمس سنوات إلا أنها لا تسفر عن أي نتيجة، يبقى رئيس الحزب هو رئيس الدولة، فيما يوزع أعضاء المكتب السياسي المناصب في ما بينهم. وهذا ما جعل النيجر في السنوات الموالية للاستقلال تغرق في الشمولية والاستبداد السياسي، وتدخل الجيش لأول مرة عن طريق الانقلاب العسكري سنة 1974.

لكن هذه الظروف الداخلية الصعبة: استبداد سياسي، ومجاعة وجفاف وفقر، واضطرابات داخلية، لا يجب أن تحجب عنا العوامل الخارجية في تنظيم انقلاب عسكري على الرئيس “ديوري حماني”، فبالرجوع إلى تاريخ تلك الظرفية نجد أن العامل الخارجي كان حاسما في إنجاح الانقلاب؛ لاسيما أنه جاء في ظل خلاف سياسي واقتصادي بين الرئيس “ديوري حماني” وفرنسا بسبب سعر الامتياز مقابل استغلال “اليورانيوم” في مناجم “أرليت” و”أكوكان” الواقعة بمنطقة أگاديز شمال النجير، حيث تنتشر مجموعات التوارگ (الطوارق). وكانت الشركة الفرنسية La SOMAIR ( La société Minière de L’Air) بدأت الاستخراج والتعدين منذ سنة 1971، وحين كان الرئيس يتفاوض مع فرنسا حول قيمة السعر وقع عليه الانقلاب من طرف الجيش.

هل كانت فرنسا متورطة في تنظيم الانقلاب على “ديوري حماني” الذي دخل في خلاف معها حول قيمة سعر الامتياز واستغلال “اليورانيوم”؟ أم إن الجيش تدخل لأخذ زمام الأمور بعدما تردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلد الذي يعاني من تأخر مزمن في التنمية، ينخره الفقر والفساد والمجاعة والجفاف.

خرج النيجر من استبداد الحزب الواحد، ودخل تحت نظام “ديكتاتورية العسكر” بقيادة الجنرال الرئيس “ساني كونتشي”، الذي حكم البلد بقبضة من حديد، ما بين 1974 و1987، حتى وفاته بأحد المستشفيات في العاصمة الفرنسية باريس، ولم يختلف عهده عن سلفه في شن سياسة الترهيب والقمع وتصفية المعارضين، وقد ألقى القبض على رجالات العهد السابق، وفرض نظاما عسكريا في مجموع البلاد، ولم يسمح هو الآخر بتأسيس الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية، وعاشت النيجر خلال سنوات عهده فصولا من الاضطرابات السياسية وتمرد “التوارگ”، الذين نزح أغلبهم إلى ليبيا وجنوب الجزائر. واشتدت سياسة الجنرال الرئيس القمعية عقب محاولة انقلاب فاشلة سنة 1983.

وبعد وفاة الجنرال “ساني كونتشي” خلفه رئيس حكومته، العقيد “علي سايبو”، الذي حكم في الفترة الممتدة ما بين 1987 و1993، حتى انتخاب أول رئيس مدني لدولة النيجر في ظل التعددية السياسية وهو الرئيس “ماهامان عثمان” بعد مؤتمر المصالحة الوطنية.

فإلى أي حد نجح هذا المؤتمر في إخراج النيجر من آفة الانقلابات العسكرية؟.

مؤتمر المصالحة الوطنية: ورهان القطيعة

بعد انقضاء حوالي 30 سنة من زمن استقلال النيجر، تقاسمها “نظام الحزب الواحد” و”نظام العسكر” في ما بينهما، تناوبا على قهر المجتمع وخنق الحريات السياسية والهيمنة على مؤسسات الدولة واستغلال موارد البلاد وثرواته الطبيعية والمنجمية، وما نتج عن ذلك من تراكم الفساد والابتزاز، والإثراء الفاحش والمذهل للنخب الحاكمة، وارتفاع البطالة وانتشار الفقر في أوساط المجتمع النيجيري… وقد تزامنت هذه الأوضاع المزرية التي يعيشها النيجر مع اندلاع ثورات “التوارگ” الذين عادوا من هجراتهم الجماعية في ليبيا والجزائر، وشنوا هجمات على الجيش النيجيري، في إطار حركات التمرد احتجاجا على إقصاء مناطقهم الغنية بـ”الأورانيوم” من برامج تنموية حقيقية، وطالبوا بالانفصال عن دولة النيجر، ولعل أهم انتفاضة قام بها التوارگ/ الطوارق هي تمرد “تشين تابردان” في ماي 1990، الذي اعتبر بمثابة الشرارة الأولى لانطلاق ثورة التوارگ التي استمرت لسنوات طويلة.

كل هذه العوامل أدت إلى تأجيج المعارضة وتعزيز خطابها، في الداخل والخارج، وتمكنت من عقد مؤتمر المصالحة الوطنية سنة 1991، مستفيدة من هبوب رياح الانفتاح السياسي والديمقراطي على شمال إفريقيا والصحراء والساحل مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي. وترأس المؤتمر الوطني المؤرخ “أندريه ساليفو”، وشاركت فيه جميع القوى الحية في البلاد وكل تمثيلات الشعب بمختلف الإثنيات، من تنظيمات سياسية ومجموعات إثنية وتنظيمات المتمردين والثوار والنخب المستقلة والأعيان…

واتخذ المؤتمر الوطني بعض القرارات، منها تنصيب حكومة انتقالية جديدة تدبر شؤون البلاد، إلى أن يتم وضع دستور جديد، وإجراء انتخابات سياسية تعددية ديمقراطية، شفافة ونزيهة، تقطع مع ممارسات نظام حزب الواحد ونظام العسكر. وتم فعلا وضع دستور جديد يضمن الحريات السياسية والتعددية، كما نظمت أول انتخابات رئاسية في زمن التعددية الحزبية في أبريل سنة 1993، فاز بها حزب “تحالف قوى التغيير”، بانتخاب “مهامان عثمان” رئيسا للجمهورية.

غير أن روح قرارات المؤتمر الوطني للمصالحة لم تصمد طويلا أمام نزوعات الجيش الذي ظل يتربص دائما ويتحين الفرص للهيمنة السياسية والتحكم في شؤون البلاد، وتحييد المدنيين من السياسة والرئاسة. ففي يناير 1996 تم تنفيذ انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب “مهامان عثمان” بقيادة العقيد “إبراهيم باري مانصارا”، الذي قاد البلاد لمدة ثلاث سنوات، بعدما نظم انتخابات شابتها خروقات حسب مراقبين، وأحكم قبضته على البلاد دون اعتراف دولي به، وعاشت النيجر ظروفا اقتصادية واجتماعية قاهرة عجلت بالإطاحة به بالطريقة نفسها التي اعتلى بها عرش النيجر، لكن هذه المرة، تم اغتياله في ظروف غامضة بالمطار الدولي بعاصمة النيجر “نيامي” سنة 1999، وتولى الرئاسة العقيد “داوودا مالام وانكي”، الذي أسس مجلس الحكم العسكري الانتقالي.

ونظمت الانتخابات في السنة نفسها، وفاز بها حزب “الحركة الوطنية للتنمية” الذي يرأسه “مامادو تانجا” الذي انتخب رئيسا للجمهورية، وهو عسكري سابق، شارك في الانقلاب العسكري الأول ضد “حماني ديوري” سنة 1974، وشغل مناصب حكومية كثيرة، منها وزير الداخلية خلال حكم نظام العسكر. وأثناء مؤتمر المصالحة الوطنية سنة 1991 تفرغ “مامادو تانجا” للسياسة بعد أن أسس حزبه الجديد آنذاك، وظل يشارك في الانتخابات الرئاسية إلى أن تمكن منها سنة 1999، واستمر رئيسا للنيجر إلى غاية 2010 بعد أن احتل الرتبة الأولى في انتخابات 2004؛ وبعد نهاية ولايته الثانية سنة 2009 حاول تمديدها باقتراح تعديل دستوري يسمح له باعتلاء رئاسة الجمهورية لولاية ثالثة، إلا أنه اصطدم بالمعارضة السياسية والشعبية؛ وحين حاول تمرير التعديل الدستوري عن طريق تنظيم الاستفتاء سقط حكمه بانقلاب عسكري يوم 18 فبراير 2010 بقيادة العقيد “سالو جيبو” الذي أسس مجلسا عسكريا انتقاليا سماه “المجلس الأعلى لاستعادة الديمقراطية”.

وعقب ذلك تم تنظيم انتخابات سنة 2011 جاءت بـ”محمدو إسوفو” رئيسا للجمهورية، عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي، الذي أسسه بعد مؤتمر المصالحة الوطنية وشارك في جميع الانتخابات الرئاسية التي نظمت خلال العشرين سنة، قبل أن يتمكن من الظفر بها سنة 2011، واستمر في الحصول على العهدة الثانية في انتخابات 2016، إلى أن سلم الرئاسة لصديقه وحليفه في الحزب نفسه “محمد بازوم” الذي ترشح في انتخابات 2021، هذا الأخير الذي تم إسقاطه بانقلاب عسكري يوم 26 يوليوز 2023.

نستخلص مما سبق أن الانقلابات العسكرية لم تكن ظاهرة طارئة في النسق السياسي بدولة النيجر، وإنما هي ظاهرة بنيوية راسخة، فالانقلابات هي نظيمة أساسية تدور حولها الحياة السياسية، فما إن تستعيد الديمقراطية التمثيلية عافيتها حتى تعود إلى نقطة العودة وهي تدخل الجيش في السياسة. وإن كان المؤتمر الوطني للمصالحة حسم فعلا في نظام “الحزب الواحد” وخلق تعددية سياسية وحزبية، تتنافس على الحكم عن طريق تنظيم الانتخابات، إلا أنه لم يتمكن من وضع حد لتدخل الجيش في السياسة بواسطة الانقلابات العسكرية. هو مؤتمر نجح في إحداث قطيعة مع نظام الحزب الواحد، إلا أنه فشل في وضع حد لتدخل الجيش في السياسة، وظلت ظاهرة الانقلابات مستمرة، تهدد كل محاولات الدمقرطة.

فما هي الأسباب الكامنة وراء استمرار هذه الانقلابات العسكرية التي تنسف كل الجهود المبذولة لإرساء أسس نظام ديمقراطي مدني تعددي يرتكز على الحرية السياسية، ويؤمن بالانتخابات كوسيلة شرعية للوصول إلى السلطة؟ سنحاول مقاربة ذلك من خلال الانقلاب الأخير على نظام “محمد بازوم”.. ونجملها في النقط التالية:

صراعات القرب والمسافة

في دراسة قيمة حول أزمة الديمقراطية في النيجر، طرح الأنثروبولوجي الفرنسيJean-Pierre Olivier de Sardan مقاربة تحليلية مفيدة للغاية، لفهم جوهر الصراع السياسي المستمر في قمة الهرم السياسي بالنيجر، حيث اقترح دراسة السياسة من خلال علاقات وصراعات القرابة انطلاقا من العائلة الممتدة التي تنتشر داخل المجتمع النيجيري، حيث تشتد المنافسة بين الإخوة من الأب، على اعتبار أن النيجر تنتشر فيه ظاهرة تعدد الزوجات. وخلص الباحث إلى أن الصراعات بين الأخوة غير الأشقاء حول الإرث والوجاهة والنفوذ انتقلت إلى الحياة السياسية والحزبية، من خلال دراسة حالات كثيرة للانشقاقات السياسية والصراعات والتحالفات؛ التي سماها صراعات القرب والمسافة.. فيتحول أصدقاء اليوم إلى أعداء الغد.

وتكون الحدود بين الخصوم السياسيين (رؤساء الأحزاب والزعماء الدينيون والقادة العسكريون) إما سياسية أو إثنية أو اجتماعية أو دينية…

ولاحظ الباحث Olivier Pierre أن التحالفات السياسية في النيجر خلال السنوات الأخيرة تعاني من الهشاشة والغموض الأيديولوجي، فجميع الأحزاب تصارعت في ما بينها ثم تصالحت ثم تصارعت مرة أخرى، فيما التحالف السياسي بين الأحزاب لا يحكمه أي منطق سياسي أو أيديولوجي؛ بالإضافة إلى أن جميع القادة والزعماء السياسيين الذين ظهروا في غضون المؤتمر الوطني للمصالحة هم الذين يترأسون الأحزاب السياسية جميعهم تناوبوا على ممارسة السلطة والمعارضة. كما تعاني الحياة الحزبية في النيجر من ظاهرة الانقسام والتشتت، نتجت عنها معضلة الترحال السياسي، حيث كثيرا ما تنتقل الكوادر والأطر بين الأحزاب حسب تموقعها في السلطة.

وفي حالة الانقلاب الأخير في النيجر فإن “محمد بازوم” انقلب عليه قائد الحرس الرئاسي، الجنرال “عبدالرحمان تياني”، الذي كان يشغل المنصب نفسه لدى الرئيس السابق “محمدو ايسوفو”. ويقول متتبعون للشأن الداخلي في النيجر إن الجنرال “عبدالرحمان تياني” ظل قريبا جدا من الرئيس السابق، فيما توترت علاقته بالرئيس “محمد بازوم” الذي بدأ سن تغييرات داخل محيطه القريب داخل القصر الرئاسي، وكان يستهدف تصفية تركة صديقه وحليفه في الحزب “ايسوفو”، وتعيين شخصيات عسكرية ومدنية قريبة منه موالية له؛ وهو ما لم يرق للرئيس السابق ” محمدو ايسوفو” وبعض العناصر الموالية له داخل الحرس الرئاسي الذي خطط ونفذ الانقلاب.

ولفهم حيثيات انقلاب 26 يوليوز الماضي في النيجر، لابد من تحليل علاقات وشبكات المصالح الاقتصادية والسياسية بين ثلاث شخصيات، كانت تجمعها مصالح مشتركة، وهي الرئيس السابق “محمدو إيسوفو”، الذي تولى رئاسة الجمهورية من سنة 2011 إلى 2021 في ولايتين متتاليتين، وترك منصب رئاسة الجمهورية لصديقه ولحليفه السياسي “محمد بازوم”، الذي كان يرأس الحزب الديمقراطي الاشتراكي (وهو حزب محمدو ايسوفو). والشخصية الثانية هي “محمد بازوم” الذي أطيح به بالانقلاب العسكري. لقد كان قريبا جدا من “ايسوفو” إلى درجة أن المحللين المتخصصين في تتبع شؤون النيجر كانوا يعتقدون أنه “بازوم” الذي حاز على المرتبة الأولى في انتخابات 2021 بدعم كبير من “ايسوفو” لن يكون إلا قفازا سياسيا في يد الأخير، والدليل على ذلك عجز “بازوم” عن تشكيل حكومته إلا بعد مرور ستة أشهر عن الانتخابات، لأنه وجد مشكلات كثيرة مع سلفه.

وبعدما بدأ الرئيس “بازوم” استعادة سيطرته وفرض شخصيته السياسية كرئيس الدولة اصطدم مع حليفه السابق الذي كان يراهن على ممارسة السلطة والبقاء في الحكم عن طريق الوكالة. ولا بد من الإشارة إلى الانتماء القبلي والإثني للرئيس بازوم الذي ينتمي إلى القبائل العربية التي تمثل الأقلية في النيجر، إذ لا تتجاوز نسبة 1% من مجموع السكان، عكس إثنية “محمدو إيسوفو” الذي ينتمي إلى الهاوسا التي تمثل الأغلبية، وتتجاوز 50% من مجموع السكان.

أما الشخصية الثالثة فهي الجنرال “عبدالرحمان تياني”، (ينتمي إلى الهاوسا مثل الرئيس ايسوفو) الذي خطط ونفذ الانقلاب؛ كان يعيش في الظل طيلة عشر سنوات التي قضاها “إيسوفو” في الحكم، لكن الخلافات التي برزت بين هذا الأخير والرئيس “بازوم” جعلته ينسل من ظلال جدران القصر الرئاسي ويخرج إلى الشمس، ويقتحم مسرح الأحداث الساخنة داخل القصر، وبرز في الواجهة كرجل قوي يقود المرحلة الجديدة في النيجر، عن طريق تزعم انقلاب عسكري على رئيس منتخب، تحت ذريعة “استعادة الأمن والاستقرار”، وهذه هي ذريعة العسكر دائما.

فتحليل صراعات القرب والمسافة، بين هذه الشخصيات الثلاث وامتداداتها داخل الجيش والإدارة والاستخبارات والأحزاب السياسية والقبائل والمجموعات الإثنية، يساعدنا كثيرا في فهم بعض خبايا الانقلاب…

فقدان الثقة في الأحزاب والحنين إلى العسكر

إن ما عرجنا عليه من تأزم الوضع السياسي والحزبي في النيجر، وفساد النخبة السياسية، وترهل الأحزاب وعدم قدرتها على الدفاع عن المواطنين وقضاياهم العادلة والمشروعة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وإصلاح التعليم وتعميمه وتوفير الخدمات الصحية، إضافة إلى الانقسامات والصراعات المتتالية بين الفرقاء السياسيين، وهشاشة التحالفات، وما نتج عن ذلك من حرمان وإقصاء لفئات واسعة من الشعب الذي تعيش أغلبيته الساحقة تحت عتبة الفقر.. واستفحال الفساد الإداري والابتزاز السياسي وانتشار الرشوة في النيجر، والاغتناء السريع والفاحش للزعماء السياسيين وموظفي الدولة.. كل هذه العوامل وأخرى ساهمت في انهيار بنيان الثقة في الأحزاب السياسية والحكومات المتعاقبة التي تشكلها، لدى الشعب النيجيري، فلم يعد خطاب الأحزاب وكلام السياسيين يغري المجتمع، ولم يعد ينصت له أحد.

وأمام هذه الهوة التي تتمدد مع مرور الوقت، بين الأحزاب السياسية والمجتمع، بين الحكومة التي يشكلها السياسيين والشعب، هذا الأخير يلجأ إلى العسكر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كطوق النجاة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي يعاني منها شعب النيجر بكل مكوناته.

وتوالي فشل الحكومات المتعاقبة على حكم النيجر، والصراعات المستمرة بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة لها، أدى إلى نفور الشعب من السياسة والسياسيين، وتولد له شعور الحنين إلى حكم الجيش. وعادة ما يتذكر النيجيريون عهد حكم الجنرال “سيني كونتشي” الذي حكم النيجر بقبضة من حديد.

ومن بين تجليات الأزمة السياسية في النيجر وعقم خطاب الأحزاب انتشار تيارات الإسلام الراديكالي المتطرف، التي تتبنى العنف والإرهاب لمواجهة الدولة وحلفائها في النيجر، وهذا ما يفسر نشاط التيارات الجهادية في بلدان الساحل والصحراء، التي بدأت عملها الإرهابي في المنطقة منذ سنة 2012، ووجدت في النيجر التربة الخصبة للتنامي والانتشار. فهذا التقدم المذهل للإيديولوجية السلفية الجهادية توجد معظم أسبابه في “فساد العمل السياسي والحكومي”، الأمر الذي جعل الشعب يبحث عن بدائل راديكالية متطرفة وعنيفة لمواجهة النظام الحزبي والسياسي.

التدخل الخارجي في شؤون النيجر والوافد الجديد

التدخل الخارجي عامل أساسي وبنيوي في قيام الانقلابات العسكرية في بلدان الصحراء والساحل، ومن بينها النيجر، فقد أشرنا أعلاه إلى أن أول انقلاب عسكري وقع ضد الرئيس “ديوري حماني” سنة 1974، قاده الجنرال “سيني كونتشي”، جاء في سياق وجود خلاف سياسي واقتصادي بين الرئيس “حماني” وفرنسا حول سعر استغلال “اليورانيوم”. فتدخل فرنسا في النيجر تاريخي، منذ أن كان هذا الأخير مستعمرة فرنسية، واستمر التدخل بعد الاستقلال سنة 1960، وتجلى أساسا في استغلال فرنسا أكبر احتياطي عالمي لليورانيوم في شمال النيجر، إذ ظلت الشركات الفرنسية هي المحتكرة له، في الاستخراج والتعدين والتصنيع والتصدير منذ عقود.

وبعد انتشار الإرهاب في السنوات الأخيرة ازداد حجم التدخل الأجنبي في النيجر وبلدان الساحل بكثرة، واتخذ أبعادا أخرى، فلم تعد الدول الأجنبية تقتصر على التحكم الاقتصادي باستغلال الموارد المنجمية والمعدنية، بل انتقلت إلى التدخل العسكري المباشر تحت ذريعة محاربة الإرهاب وتيارات الدينية المتطرفة، بعد أن اختارت التنظيمات الإرهابية الصحراء الكبرى لتكون منطلق أعمالها التخريبية والجهاد من أجل قيام “دولة الخلافة والشريعة”. وقد أنزلت فرنسا وأمريكا وبعض حلفائهما جيوشها وعتادها الحربي في منطقة الساحل والصحراء منذ سنة 2012. لكن مع توالي السنوات، اتضح أن التدخل الأجنبي مهما بلغ دعمه وإنزاله العسكري واللوجيستيكي الكثيف لم يكن مجديا، ولم يحقق أهدافه على المستوى الميداني، حيث تزايدت قوة الحركات والتنظيمات الجهادية في عنفها وإرهابها.

ورغم فشل الدول الغربية، فرنسا وأمريكا تحديدا، في القضاء على التيارات الجهادية المتطرفة في كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو، إلا أنها مازالت تتشبث بوجودها في المنطقة. واختارت هذه القوى الغربية أرض النيجر لتكون قاعدة خلفية وإستراتيجية لما تسميها الخطة الأممية لمحاربة الإرهاب في بلدان الساحل والصحراء، فعملت أمريكا على بناء قاعدة عسكرية للطائرات بدون طيار في منطقة أگاديز شمال النيجر، فيما عززت فرنسا وجودها العسكري في البلد بإنشاء ثلاث قواعد عسكرية.

غير أن هذا التدخل الأوروبي والأمريكي في الساحل والصحراء لم يخلق مقاومة شعبية داخل بلدان الساحل فحسب، وإنما خلق أيضا منافسا له في الاستحواذ والتحكم في بلدان الصحراء والساحل الغنية بالذهب والمعادن والطاقة واليورانيوم؛ إنه الخصم التاريخي والإيديولوجي للغرب، القطب الشرقي الذي تتزعمه روسيا، هذه القوة الزاحفة التي تسعى هي الأخرى إلى وضع أقدامها على خريطة بلدان الساحل والصحراء، وهي تدري صعوبة جغرافيتها العنيدة، فابتدعت لها القوات المناسبة لاختراقها، إنها عصابات “فاغنر”، وهي المجموعات العسكرية الروسية المتدربة على اختراق النزاعات العسكرية في العالم، وظهرت في إفريقيا كآلية ناجعة لتثبيت الوجود الروسي في دعم الانقلابات العسكرية، وحسم المعارك الميدانية، ومواجهة الوجود الفرنسي والأوروبي والأمريكي في إفريقيا.

ونجحت “فاغنر” الروسية في مالي، بشكل هائل وسريع، وطردت فرنسا في هذا البلد الغني بالذهب والأكثر تمزقا وفقرا في العالم، ثم في “بوركينافاسو” الذي أضحى يمثل الأنموذج الناجح والناصع للاختراق الروسي لإفريقيا. فكيف يمكن للنيجر أن يكون استثنائيا أمام صعود “خطاب قومي إفريقي جديد” يقوده جيل جديد من شباب الجيش، عماده محاربة فرنسا التي عمرت في المنطقة أكثر من قرن ونصف، وحلفائها الغربيين، ثم الاعتماد على التحالف مع روسيا، الوافد الجديد إلى إفريقيا. وإن كانت فرنسا قد استعمرت واحتلت إفريقيا بجيوشها نهاية القرن التاسع عشر فإن روسيا بمرتزقتها “فاغنر” تمكنت اليوم من طردها في أغلب مستعمراتها القديمة، وما النيجر إلا القلعة الأخيرة التي سقطت تحت أقدام جيوش الروس.

وما تحالف مالي وبوركينافاسو، حيث يحكم العسكر، مع انقلابيي النيجر، في مواجهة أي تدخل عسكري للغرب عبر حلفائه التقليديين في منظمة “إيكواس”، إلا قرع طبول الحرب بين روسيا والغرب على ضفاف ساحل الصحراء.

مجمل القول، قد يبدو انقلاب 26 يوليوز 2023 في النيجر ناتجا بالأساس عن الصراعات الصغيرة والقريبة بين أطراف النظام السياسي في النيجر وحاشيته داخل الحرس الرئاسي داخل القصر، إلا أن امتداداته عميقة ومتشعبة، تظهر المستويات والأبعاد التي يتخذها الصراع العالمي الجديد.