اخبار المغرب

لا تأتي الكتابة إلا ضدّ النسيان .. الحجمري يوجه رسالة مفتوحة إلى محمد برادة

1

أستاذي العزيز؛

تحية الوفاء. وبعد،

ليس من عادتي أن أكاتبكَ، كنتُ كلما رغبتُ في لقائك أكلّمك بالهاتف، فتبادر لدعوتي إلى بيتك الأنيق بأكدال زنقة 16 نونبر. نتحدث. ويتأكد لكل من سعد بمعاشرتك أن صداقتك رائعة وصادقة. لم نكن نجالسك إلا لنتعلّم منك لأنك أستاذ وباحث جامعي متفتّح، وكاتب مبدع أصيل.

كان هذا مطلع الثمانينيات، حين التحقتُ بكلية آداب الرباط؛ كان الدّرس الأدبي بالجامعة يحظى باهتمامنا. كنتَ رفقة أساتذة آخرين ممن حبّب إلينا هذا الدرس ودعانا للانخراط في مساءلته بأفق جديد خلال سنوات الإجازة والسلك الثالث فيما بعد.

ولأنكَ من الأساتذة الأوائل الذين أدخلوا المناهج الحديثة للجامعة المغربية، وعملوا على تعميقها في محاضراتهم وفي الأبحاث التي أشرفوا عليها أو ساهموا في مناقشتها، فقد كنتَ دوما تحثنا بإشراف علمي مُتقد أثناء فترة التكوين، على قراءة مختلف الاجتهادات النقدية العربية والغربية، وتبسُط أمامنا طرق الاستفادة منها تطويرا لسؤال النقد وتحديثا لآفاقه.

وتأكد لديّ فيما بعد، أن السؤال النقدي لم يكن يعني لديكَ مجرّد إنجاز القراءة النصية فحسب، بل كان سؤالا ثقافيا يتطلّع إلى وصف المنظورات الاستطيقية التي تعبّر عنها أشكال الكتابة وتلاوين الأدب. كتبتَ في تقديمك لدراستك ” أسئلة الرواية أسئلة النقد ” ما يلي:

“رغم اهتمامي القديم بقراءة الرواية ونقدها، فإنني كنت أتريث في نشر ما أكتبه من نقد، وأوثر أن أجعله منطلقا لدروسي الجامعية ليتسنى لي، من خلال ردود فعل الطلبة ومشاركتهم، أن أتعمّق في التحليلات التي أسجل عناصرها الأساسية أو أكتبها ضمن سياق لا يتوقف عن الاجتهاد والتنظير وغزارة الإنتاج”.

كنتَ تحرص أن يكون سؤالك النقدي متماسكا، وكان من اليسير أن تنتبه إلى الآثار التي تشرط القيم الفكرية لذلك السؤال وتجلي خصوصيته في النقد العربي والغربي على حدّ سواء.

ثم أتيتَ إلى الكتابة مُزوّدا بالتجربة ومغامرة البحث عن أسلوب خاص يسعى إلى تجديد تصوّر الأدب وتحرّر اللغة من الوثوقية والتقريرية الباردة؛ فأتتْ ” سلخ الجلد” مجموعة قصصية بحكايات مليئة بالحياة وشاهدة على تحوّلات اجتماعية ترسم سقوط التقاليد وتناقض الأفكار وأجواء الخيبة. واليوم وأنا أعيد قراءة هذه المجموعة القصصية أدرك حكمة بطل قصة مساء تلك الظهيرة: ما الذي يصيّر لحظة الماضي قريبة من القلب والكيان تأبى دوما عن الوصف والملاحقة؟

أذكر أنني سألتُكَ ذات يوم: ما الذي يُحفّز الإنسان على الكتابة واختلاق الحكايات؟

قُلتَ: الخوف من النسيان.

حقّا، لا تأتي الكتابة إلا ضدّ النسيان. بل لعلّها أيضا لعبة للنسيان. لعبة لاستعادة الضوء الهارب؛ كأنّ كتابة الرواية عبور إلى أزمنة وأمكنة معلومة نتوهّم معرفتها بحميمية، فإذا هي في واقع الكتابة، أزمنة وفضاءات لم نعهدها من قبل.

أفترضُ أنك أقبلت على كتابة الرواية من موقع المتأمل لصدى تجربة ذاتية ووجودية، تدعونا لنكون شاهدين – معك- على أزمنة وفضاءات مدهشة وآسرة. جميل ألاّ تكون لعبة النسيان سيرة ذاتية بحصر المعنى، لو كانت كذلك لما تمكّن “الهادي” و “للا الغالية” و “إبراهيم” من أن يكتسحوا مخيلتنا بهذا الشكل الرائع والجذاب.

هكذا ارتضيت لكتابتك الروائية أكوانا من التاريخ الشخصي والعامّ. ولنصكَ الإبداعي دوما دلالة محايثة تعتني بكتابة تمتحّ من اليومي والهامشي والمبتذل احتفاء بالحبّ والموت والحياة؛ كتابة تشخص الأشياء والعلاقات واللغات؛ كتابة منفتحة على وهج الحواس… إنها إضافة دالة من إضافات أدبنا العربي الراهن.

2

أستاذي العزيز؛

سمحت لي إحدى زياراتي الخاطفة لمعرض الكتاب بالرباط هذه السنة بلقائك وإن على عجل، وقد علمت بصدور أعمالك الروائية في طبعة أنيقة عن منشورات (الفنك)؛ ولعلك توافقني الرأي إن قلت، إن النصوص، قصصية أو روائية أو شعرية كانت، لَمّا تصدر ضمن سلسلة الأعمال لا تغدو نصوصا مستقلة، بل إنها تصبح نصوصا متعانقة تُمْلي على قارئها اختياراً معينا يسمح باستخلاص رؤية قصصية أو روائية أو شعرية لهذا الكاتب أو ذاك، وتسهم أكثر في تركيب تصوّر للكتابة منشؤه سياقات أدبية وثقافية، هي جوهرها وحافزها. ولذلك، تتيح تلك الأعمال إنجاز قراءة جامعة، من غير أن تكون مانعة؛ مصدرها أطوارٌ من التجربة الإبداعية لصاحبها، ودليلها خبرته فيما حقّقه من بناء فنّي لكل عمل إبداعي بتلوينات أسلوبية، وأدوات لغوية، وموضوعات حكائية يتضافر فيها الرّمزي والثقافي والاجتماعي. ثُمّ إن قراءة تلك الأعمال مجتمعة تمكننا اليوم من وصف البنية التأليفية لنصوصك الروائية، وترسم ملامح تطوّرها التاريخي، من النّص المفرد إلى النّص الجمع، وفَهْم نوعية التقنيات الفنية التي يمكن للنصوص أن تظهرها و/ أو تُخفيها.

سعدتُ بجمع أعمالكَ الروائية وبإخراجها الأنيق.

بإعادة قراءة هذا النص الجمع تتجلى لنا أهمية ما أبدعته من روايات باعتبارها أفقا للمبادرة والابتكار، وتجاوز الرتابة الاجتماعية والواقعية الفجة.

ولا شكّ – أستاذي العزيز – أنكَ ما زلت مقتنعا بأهمية التخييل الروائي في هذه الحقبة من تاريخنا الاجتماعي والثقافي لكونه يسمح لنا بتجديد النظر في تلك “المعادلات الموضوعية” القائمة بين الأدب والحياة؛ نعلم اليوم – وربما أكثر من أي وقت مضى – أن الموضوع الأدبي ليس متعاليا ولا كليا، بل إنه موافق لأحوال الأفراد والمجتمعات، يبنيه الكاتب انطلاقا من موقعه في الثقافة والمجتمع لغاية بيان دوره ووظيفته المتعلقة بمفهوم الأدب وتعبيرات الإيديولوجيا، وتحقّقات المسافة الاستطيقية التي تجعل ” الرواية مجالا نصيا لتوليد المعرفة، ولملمة الأزمنة التي أهملها التاريخ والمؤرخون بغية استيعاب تبدّلات المجتمع الموسومة بالانحصار واختلاط القيم.

رسالتي المفتوحة هاته… منبع اعتزازي بك أستاذا متألقا، ومبدعا أصيلا؛

معزتي بلا حدود.