اخبار المغرب

“أغاني راب” تتطرق إلى واقع الشباب .. إيقاعات سريعة و”رسائل سياسية”

شابٌ يتدحرج، نازلا مرة يخطو ومرة يقفز باتجاه القاع، نازلا يتدحرج نحو الأرض يصادف أشباهه في سُلم عمارة تعود لتسعينات القرن الماضي حسب صورة مغني “راب” من تلك المرحلة… نازلا في فضاء تكثر فيه الشبابيك الحديدية… نازلا يُخبر “البرويتاج” عن زحام المكان المزعج المزدحم… هذا حي شعبي مُحاصر مضغوط (في أغنية الرابور المغربي عمر سهيلي (الملقب ديزي دروس) التي صدرت في 14-02-2023 وقد حققت رقم مشاهدات عال وتغطية إعلامية ومتابعة كبيرة في مواقع الاخبار السعودية الاجتماعي، وهذا سبب الكتابة عنها هنا).

نازلا في تفاصيل الجُرح يُسلم الشاب على شبان (عشران أي جيران وأصدقاء ومن هنا عنوان الأغنية) يقفون وأيديهم خلف ظهورهم ومتكئين على الحيطان… (حسب إحصائية حكومية مغربية رسمية يبلغ عدد هؤلاء العشران 1200000 شاب لا يدْرسون ولا يعملون وثلثاهم يقطنون بالوسط الحضري) وهم ينتظرون معجزة الهجرة… فضاء قاس عنيف، يردد “كبرنا وَسَطَ الغَابَةِ الضَّرْب وَالْجُرْح…” لذلك يعلن: هنا لا يوجد الحب.

هذه عمارة شعبية… يشعر المتفرج أنه يتحرك في الواقع المعاش، لذا يجد الشباب المغربي صدى لذاته في هذا النوع من الأغاني الاحتجاجية… تساعد النغمة والإيقاع السريع على الاندماج في الأجواء.

يتابع الشاب رحلته، يدخل غرفة فيجد شبيهه مستلقيا رافعا قدميه لا يتحرك وأمامه شاشة -نافذة- تتدفق منها الصور بإيقاع هائل تأخذه إلى عوالم أخرى… كلما اقترب “ترافلينغ” الكاميرا من الشاشة زادت سرعة الصور، الشاشة أداة تهوية وتنفيس.

هذه نظرة على المتن الفيلمي المصاحب للأغنية في طبيعته البصرية بدل التعامل معه كمتن غنائي أدبي. تجري هنا مقاربة الأغنية كمنتوج بصري أساسا “لأن الأشياء تنفذ إلى العقل من خلال العيون بأسرع من نفاذها من خلال الآذان” حسب ريتشارد موريسون في تأكيده على دور قوة الصور في التعبير.

لا حدود لجشع عين الكاميرا وفضائها الرقمي بينما فضاء الشاب محدود، للواقع إكراهاته وإيقاعه… تتقدم الكاميرا، تُطالعُنا طريق مُغبّرة، جحيم أرضي… وأول فضاء يقتنصُ الشاب هو حبسٌ وعدسٌ… ثم تتوالى باقي الفضاءات التي تحاكي عوالم ووقائع وشخصيات معلومة للمشاهد.

مثلا صحفي شاب يستمع لمسؤول حكومي ويتمنى قصفه بحذائه (حكاية جورج بوش في بغداد)، عوالم تكشف عن حجم الغضب، يتشبه المغني بفيصل القاسم في برنامجه “الاتجاه المعاكس” ويسميه فيصل القاصف… هذا اقتباس وتناص وقائع وبرامج… يجرى غسل أموال بالماء… يتهم المُغني المتنكر في زي صحفي مسؤولا حكوميا بأنه يكره النقد ويتحدث بصعوبة كأنه يصنع النفط.

هذه أغنية غاضبة فيها نفَس احتجاجي اقتصادي تقول الكثير لمشاهديها ومستمعيها. يتابع المتفرجون الفيديو لأنهم يتلقون معلومات متناسقة تمكنهم من دخول المشهد ومعايشته… بعدها يُخرجهم الغضب من وضع المتفرج إلى وضع المحتج… يحتج لفظيا، ثم يصمت عاجزا وهذا خطير على مزاج وصحة البشر.

بعد كل هذا يعلن “الرابور” بوضوح:

“انْتِبَاه مَا عِنْدِي حَتّى انْتِمَاء” أي أنه فنان محايد ليس له انتماء سياسي.

يتابع رحلته ويصف طريقه بأنها سوداء لا ألوان فيها. ويتحسر: هل يموت أم يهاجر؟

يقول:

وَاش يَرْضَى بينا القَبْر

وَاش يَقْبَلْ عَلَيْنَا لبحر

الْمَغْرِب ديالنا أَحْسَن بِلَاد.

تمتد شواطئ المغرب على أكثر من 3500 كيلومتر…

يُذكرنا “الرابور” بالوصلة الإشهارية عن “المغرب أجمل بلد في العالم” ويتساءل: هل سيرضى بنا القبر أو البحر رغم غنى المغرب بشواطئه.

هذه صور أغنية فيها وعي حاد باللاعدالة الاقتصادية…. أغنية تمثل صدى لمشاعر الناس الغاضبين من الفساد والغلاء… تختزن أرض المغرب 70% من المخزون العالمي من الفوسفات ومع ذلك يشعر الناس أن أمنهم الغذائي مهدد.

كيف يستقيم البحر والفوسفاط والجوع؟

حققت الأغنية سبعة وعشرين مليون مشاهدة في ظرف ثلاثة أسابيع وظهرت فيديوهات تشرح رسائلها. تجاوزت بعض الشروحات مليون مشاهدة… صرح “الرابور”:

“يثق الناس في مغني الراب أكثر من ثقتهم في السياسيين”.

في تفسيره لنجاح الأغنية قال الناشط السياسي رشيد البلغيثي “إن السبب في نجاح الأغنية هو تعطش الناس للخطاب المعارض”.

حاليا، تحتل أغاني الراب موقعا متقدما في التعبير عن الاحتجاج في المغرب… لم يعد الغناء التقليدي يعبر عن مزاج وذوق الشبيبة… مر زمن الاستماع للموسيقى الأندلسية وإنشاد “الملحون” وشرب الشاي بجلابيب بيضاء في فضاء تقليدي فاخر. هذا زمن الاستماع للموسيقى وقوفا… صار الغناء التقليدي يبدو باردا ورتيبا مقارنة مع إيقاع الحياة. لذلك يجد الشباب ذاتهم في موسيقى “الراب”. موسيقى متمردة في إيقاعها عنيفة موجزة في كلماتها.

تكشف هذه الأغاني اللاعدالة والغضب والتمرد… وهذه التغذية المسيّسة أكثر تأثيرا على مزاج الشباب من بلاغة خطاب المؤخرة المتحركة على “تيك توك”.

حاليا تهيمن على صفحات مواقع الاخبار السعودية الاجتماعي المغربية موجة غضب ذات نبرة اقتصادية تشخّص تأثير الفقر على الوعي وعلى حياة الناس وتندد بالريع والفوارق التي ترسخ أن البقاء للأغنى.

الملاحظ أن الفن المغربي يتجاهل دائما تصوير الصراع الطبقي. يعاني المغرب حاليا من فائض في المشتغلين بالفن النظيف الحلال والذين لا يجرؤون على رفع سقف الحرية.

صدرت الأغنية بينما يعرف المغرب تكاثر الخطوط الحمراء ويعيش البلد احتجاجات لأن ثمن الطعام تضاعف. جوع الفقراء على الأبواب.

الغريب أن الأسواق عامرة بالسلع.

سبب الجوع هو اللاعدالة وليس الندرة.

في هذا السياق أجد الكتابة عن فن غير احتجاجي ترفا.

صدرت الأغنية بالتزامن مع اليوم العالمي للعدالة ومع ذكرى تأسيس حركة 20 فبراير 2011 وهي النسخة المغربية لاحتجاجات الربيع العربي والتي ترتب عليها دستور جديد وانتخابات سابقة لأوانها.

حاليا، لم يتبق الكثير من الحِراك المغربي في ذكراه الثانية عشرة…

كانت تلك مرحلة لوحت بوعود كبيرة للطبقة الوسطى، تلك مرحلة خطب فيها الملك محمد السادس (خطاب 20 غشت 2008) محذرا من الفساد، قال الملك:

“يتعين على الجميع، التحلي باليقظة والحزم… لاسيما عندما يتعلق الأمر بقوت الشعب، والمضاربات في الأسعار، واستغلال اقتصاد الريع، والامتيازات الزبونية، أو نهب المال العام، بالاختلاس والارتشاء، واستغلال النفوذ والغش الضريبي”. هذا تشخيص الملك لما يجري.

حاليا وفي عهد صقيع حكومة رجال الأعمال، لم يتحسن وضع المغرب في مكافحة الفساد، بينما يتزايد وعي الشباب بالفوارق الاقتصادية… كتب ثرونستاين فبلن ذات يوم: “تعمل الدولة لصالح رجال الأعمال ولكنها تصوّر هذه المصالح على أنها مصالح الأمة”.

هذه عينة تطبيقية للأخبار التي تتداولها المغاربة الآن:

في فبراير 2023 اشترى مضاربون مافيوزيون نفط روسيا وزورا شهادات المنشأ وتهربوا ضريبيا وأعادوا بين السلعة بأضعاف ثمنها في الشهر نفسه.

في بداية 2023 استوردت شركة لحوم يملكها رجل أعمال وقيادي بأحد أحزاب الحكومة آلاف العجول فور صدور قرار حكومي مغربي بتوقيف الرسوم الجمركية.
كيف عرف المستورد المعلومة التي منحته أفضلية في السوق؟

يبدو أنه قد وقع تسريب مسبق لمعلومات بشأن القرار الحكومي توقيف دفع الرسوم الجمركية على استيراد العجول. منْ حصل على المعلومة صرّفها آلاف العجول.

لا بد لمن يضعُ أصابعه في قدر السمن من أن يلحس أصابعه.

ولا بد لمن تضرر أن يستمع لأغاني “الراب” لينفس عن غضبه.