اخبار المغرب

رواد الموسم السنوي سيدي اعمارة ينجحون في إعادة الحياة إلى بلدة مهجورة

وسط فَجٍّ في قلب بلدة سيدي اعمارة، التابعة لجماعة العمامرة بنواحي مدينة آسفي، ينتظم موسم سنوي تحفّه الأساطير، ويجتمع فيه ما تفرق في غيره من المواسم، إذ يجمع بين الفُرجة والتجارة والدين.

تبعد بلدة سيدي اعمارة عن مدينة آسفي بمسافة زمنية تزيد عن ساعة ونصف، مرورا بسبت گزولة. تبدو الطريق في معظمها متهالكة لكن أشغال تعبيدها جارية وإن ببُطء، حيث تم توسيع جنباتها وتشييد عدد من القناطر.

في محطة سيارات الأجرة بسبت گزولة يندر العثور على وسيلة نقل في اتجاه سيدي اعمارة، بسبب الإقبال الكثيف لسكان البلدة على العودة إلى بلدتهم التي هجروها منذ سنوات بسبب صعوبة العيش، ونزحوا إلى المدينة أو ضواحيها.

وفي الموسم الذي ينعقد ابتداء من رابع عيد المولد النبوي، يعود أهل البلدة إلى بيوتهم المهجورة، ويعمّرونها ثلاثة أيام، هي مدة انعقاد الموسم الذي يقصده زوار آخرون من خارج البلدة، إما للتفرج على سباقات “التبوريدة” والتنزّه، أو طلبا لـ”البركة” من سيدي اعمارة، الذي يرقد في ضريح عند قدم جبل.

“اللي بغا البركة يصبر”، تقول سيدة عجوز تجلس على المقاعد الخلفية في وضعية مزدحمة إلى جانب ثلاث نساء في جوف سيارة للنقل المزدوج، ردا على فتاة أبدت تأفُّفها من تصاعد الغبار من نوافذ السيارة المهترئة.

 

عند مدخل بلدة سيدي اعمارة تنتصب حواجز مراقبة للدرك الملكي والقوات المساعدة، وعلى جنبات الفجّ بين جبلين تنتصب خيام التجار والمقاهي وخيام الخيالة المشاركين في مسابقة “التبوريدة”، بينما تُضفي البيوت الواطئة المبنية بالحجارة والطين على المكان مشهدا بانوراميا فريدا.

كل شيء في موسم سيدي اعمارة يعود بالزائر إلى الماضي، بدءا بالمقاهي المقامة داخل الخيام، والتي يجلس روادها على الحصائر في انتظار نضج “الطواجن” التي يُعدونها بأنفسهم، مرورا بالألعاب القديمة مثل دفع كتلة حديدية على مسار متصاعد، وهي لعبة يختبر فيها الشباب قوة عضلاتهم، ولعبة النرد… وصولا إلى الحلويات التقليدية التي لا يعود الزائر دون اقتناء شيء منها كنوع من “الباروك”.

 

في الموسم أيضا ثمة خيمة تُقدم فيها خدمة ثقب آذان الطفلات الصغيرات، واتباعا تتدفق من مكبر صوت منتصب على علو يناهز خمسة أمتار عبارة “اللي عندو شي بنية ما زالا ما تاقباش ودنيها مرحبا، هنا تْقاب لودينات بالحلقات ديال النقرة، تْقاب لودينات بالخريسات ديال زايان… “.

هنا يعتني الرجال أيضا بزينتهم، ففي مدخل الفضاء حيث ينعقد الموسم ثمة “صالونات حلاقة” عبارة عن خيام صغيرة يستعين الحلاقون أصحابُها بأدوات بسيطة لا تتعدى المقص والمشط والموسى، ولكنها كفيلة بتحسين مظهر الزبناء.

ويحضر البُعد الديني بشكل قوي في موسم سيدي اعمارة؛ ففي ركن مسجد صغير يلتئم مجموعة من حفظة القرآن يتلون الآيات بالقراءات المغربية المختلفة، وتتوالى عليهم صدقات الزوار، وكلما تصدق زائر يرفعون أكفّهم ويخصّونه بالدعاء، وثمة زوار يوصون بدعاء خاص كالدعاء بالشفاء من مرض أو تيسير أمر ما.

جوار المسجد يوجد ضريح سيدي اعمارة، عند مدخله يوجد باعة يبيعون “لوازم الزيارة”، وهي بالأساس الشمع، وأغلب الوالجين إليه من النساء، ولكن الصدقة المقدمة لا تقتصر فقط على الشمع، بل المال أيضا، وهناك من يقدم ديكا.

داخل الضريح يوجد شخصان، أحدهما جالس وسط ركام من علب الشمع، والثاني واقف، مهمتهما هي الدعاء بدون توقف للزوار المتصدقين، بهدف تحفيزهم على مزيد من العطاء، وثمة نساء لا يكتفين فقط بالصدقة، بل يتوسلن للشخص الراقد في الضريح، بوضع الأيدي على قبره وتقبيله أو مسح الوجه بطرف الغطاء الأخضر الذي دُثّر به القبر.

بعد العصر تتوجه الأنظار إلى مضمار السباق الذي يسميه أهل المنطقة “المْجبد”، حيث يتّخذ الزوار أماكنهم في جنباته، إما جالسين أو واقفين، بينما أهل البلدة الذين لديهم بيوت يجلسون أمام بيوتهم ويشاهدون سباقات “التبوريدة” من أعلى، كأنهم جالسون في مدرجات ملعب لكرة القدم.

ويتوافد عدد هائل من فرق الخيالة على موسم سيدي اعمارة، إذ بلغ عدد الفرق المشاركة هذه السنة نحو خمسين فرقة، من قبائل الإقليم ومن خارجه، ويُضفي المكان الذي يقام فيه الموسم جمالية على سباقات “التبوريدة”، التي تقام في اليومين الأولين بعد العصر، وفي اليوم الثالث والأخير تنطلق منذ الصباح.

ويُضفي التعليق الذي يصاحب سباقات “التبوريدة”، بصوت المنشط عبد اللطيف عربات، حماسا خاصا على أجواء التنافس بين الفرق، ومن خلال نبرة صوته بعد الطلقة يمكن معرفة ما إن كانت هذه الطلقة جيدة أو سيئة، ذلك أنه لا يخفي التعبير عن إعجابه بالطلقة الجيدة، وينوه بالفرقة صاحبتها بعبارات من قبيل: “بصحتك ألمْلعم فلان (…)”، أو “الضربة هي هاديك”، بينما يكتفي فقط بشُكر الفرقة التي لم يتوفق فرسانها في تنسيق طلقتهم، بصوت فاتر، قبل أن يدعو الفرقة الموالية إلى التقدم نحو “المجبد”.

يعرب عبد اللطيف عربات عن فخره بموسم سيدي اعمارة الذي يجمع أهل عبدة، ذاهبا إلى القول: “الجمال اللي كاين فهاد الموسم ما كاينش فشي موسم آخر فالمغرب ولا فالعالم، حيت فيه واحد الرونق هائل”.

الشعور الذي عبر عنه عبد اللطيف عربات، عبّر عنه أيضا المهدي الساقي، خيّال من جماعة إيغود باليوسفية، بقوله: “هادي أول مرة كنجي لموسم سيدي اعمارة وجاني أحسن موسم دوزت فحياتي”.