اقتصاد

هشام توفيق يكتب لـ«الشروق»: قراءة في التاريخ الاقتصادى لمصر في 200 عام.. التشخيص قبل العلاج



نشر في:
الثلاثاء 18 أكتوبر 2022 – 7:37 م
| آخر تحديث:
الثلاثاء 18 أكتوبر 2022 – 7:37 م

تراجع مستمر فى نسبة مساهمة القطاع الخاص فى الناتج القومى
مصر تعيش موقفًا صعبًا للغاية مع استمرار العجز الهيكلى فى الميزان التجارى
محمد على أقام الدولة الحديثة بعيدًا عن الاستدانة وابنه وقع أول قروض تحصل عليها مصر
عبدالناصر توفى ومصر مدينة بـ1300 مليون دولار تمثل ربع الناتج القومى
المشكلة الحقيقية فى عهد عبدالناصر هى قضاء الدولة على القطاع الخاص
التنمية الاقتصادية فى عهد مبارك كانت محدودة مقارنة بالمديونية المتحققة
تخفيض مستوى الدين الخارجى إلى 80 مليار دولار هو ضرورة حتمية لضمان عدم تعثر الدولة
تقليص المركزية المخيفة فى اتخاذ القرارات بقطاع الأعمال هو الإصلاح الأهم

كثيرا ما نتحدث عن أهمية الاستثمار وضرورة جذب مستثمرين وتحفيز القطاع الخاص سواء الوطنى أو الأجنبى، ومع هذا نلاحظ تراجعا مستمرا فى نسبة مساهمة القطاع الخاص فى الناتج القومى، نتحدث أيضا عن تضخم القروض الحكومية وضرورة تخفيضها ومع هذا نستمر فى الاقتراض، وقد وصلنا بسبب التحديات الداخلية والأوضاع العالمية غير المستقرة إلى موقف صعب للغاية نظرا لاستمرار العجز الهيكلى فى الميزان التجارى، والذى يصاحبه نضوب فى مصادر تمويله مما يعنى تزايد مخاطر انخفاض مستويات التشغيل وكذلك مخاطر تأخر الدولة فى خدمة الدين.
وقد قرأت مؤخرا كتابين ألقيا الضوء على ما وضعه أجدادنا خلال قرنين من سياسات أدت فى مرحلة إلى ازدهار الاقتصاد، وفى مرحلة أخرى إلى مسلسل من التدهور حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. الكتاب الأول، والأهم، هو لأستاذ التنمية الاقتصادية وأستاذى فى الجامعة الأمريكية د. جلال أمين. الكتاب صدر عام 2012 ويحمل عنوان «قصة الاقتصاد المصرى من عهد محمد على إلى عهد مبارك».
ود. جلال كمتخصص ركز فى تحليله على مدى اعتماد حكام مصر على القروض الخارجية، فى تنفيد سياستهم مقارنة بمدى نجاحهم على إحداث طفرة فى التنمية الاقتصاية للبلاد. وقد استند د. جلال على عدد من المراجع من مؤرخين عالميين Crouchly A.E, Condliffe B., Marlow J., Owen R…
أما الكتاب الثانى فهو للكاتب والمؤرخ مدحت عبدالرازق، صدرت الطبعة الثانية منه فى 2022، وهو بعنوان «ميتسراييم ــ حكايات وعائلات يهود مصر الملكية»، وقد وجدت فى الكتابين معلومات ثمينة جدا سأحاول تلخيصها فى السطور القادمة لعلها تخدم راسمى السياسة الاقتصاية فى هده المرحلة الدقيقة، فالتشخيص الدقيق للمرض يجب أن يسبق العلاج.
أولا: مصر الملكية 1805ــ1952
تولى محمد على باشا حكم مصر عام 1805 وكان هدفه الاستراتيجى الرئيسى هو تقوية أركان الدولة، فاهتم جدا بإنشاء جيش قوى استخدمه فى فرض سيطرته داخليا وخارجيا. وفى سبيل هذا اعتمد على خبرات فرنسية فى التنظيم والإدارة بقيادة سليمان باشا الفرنساوى. ثم أنشأ العديد من المدارس العسكرية وترسانات بناء السفن ومصانع إنتاج الدخائر. بعد ذلك التفت محمد على باشا إلى الأمور الاقتصادية، فأقام الخزانات والسدود وأدخل زراعة القطن طويل التيلة إلى مصر والذى أصبح المصدر الأساسى لدخل الحكومة. كذلك اهتم بصناعة تكرير السكر. وكان أول من أرسل البعثات للدراسة فى جامعات أوروبا فى مختلف التخصصات. ولم يمل محمد على باشا للاستدانة لتمويل نفقاته الجارية أو مشروعاته إلا بإصدار أذون خزانة محلية وفى نطاق ضيق. وتوفى عام 1849 ومصر ليست مدينة بقرش لجهات خارجية.
تولى سعيد باشا، ابن محمد على باشا، الحكم عام 1854 وعلى الرغم من قلة مشروعاته (باستثناء بدء حفر قناة السويس، وإنشاء خط سكة حديد من الإسكندرية إلى كفر الزيات)، قام سعيد باشا، بضغوط من مصارف أوروبية، بعقد عدة اتفاقيات لقروض كانت أول قروض تحصل عليها مصر، وبلغت عند وفاته 18 مليون جنيه كانت تكلف الخزانة العامة 20% من إيراداتها السنوية لخدمتها.
جاء الخديو إسماعيل للحكم عام 1863، حيث اهتم بوضع أسس مستدامة لإدارة الدولة، فأنشأ مجلسا للنظار (الوزراء) وأعاد تنظيم القانون المدنى وقانون التجارة المدنية وقانون التجارة البحرية وقانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات. كما دشن المحاكم المختلطة وإخضاع الأجانب المقيمين فى مصر لها أسوة بالمصريين، وأخيرا أسس أول مجلس دولة وأول برلمان مصرى.
وفى شأن المشروعات قام الخديو اسماعيل بالانتهاء من مشروع حفر قناة السويس، بعد أن هدده الفشل فى آخر عهد سعيد باشا ومنع السخرة والعبودية، وأعاد الأراضى التى تم تخصيصها فى عهد سعيد لشركة قناة السويس على طول القناة.
قام الخديو إسماعيل كذلك بإنشاء القاهرة الخديوية (وسط البلد)، بمرافقها من مياه وغاز، وحديقة الحيوان وطريق الهرم ودار الأوبرا. وفى مجال الزراعة والرى تم شق 112 ترعة أهمها ترعة الإسماعيلية بطول 98 كم والإبراهيمية بطول 150 كم والبحيرة بطول 42 كم، ونتيجة لذلك تم زيادة الرقعة الزراعية فى عهده بواقع 750 ألف فدان، وازدهرت زراعة القطن والسكر وتم إنشاء عشرات المحالج والمصانع المرتبطة بهما. وفى مجال المواصلات تم إنشاء 276 كوبرى وإضافة 1500 كيلو متر من السكك الحديد لـ250 كيلو مترا ورثها من سلفه. وفى مجال التعليم أنشأ اسماعيل حوالى 4600 مدرسة، مقارنة بـ185 مدرسة، ورثها عن سلفه فتضاعف عدد التلاميذ فى المدارس الابتدائية فى عهده من 3.000 إلى 160.000 (عدد سكان مصر كان حوالى 7 ملايين).
فى سبيل تنفيد هذا الحجم الهائل من المشروعات التنموية زادت القروض الخارجية فى عهد الخديو اسماعيل من 18 مليون جنيه إلى 91 مليون جنيه، أى بـ73 مليون جنيه كانت تكلف الخزانة العامة 80% من إيراداتها السنوية. ويقدر Croushley حجم الإنفاق الفعلى على جميع مشروعات الخديو إسماعيل بـ51 مليون جنيه والباقى 22 مليون جنيه ذهب فى عمولات ومصاريف لم تستفد منها الدولة. ونتيجة لسوء تقدير الخديو إسماعيل ووزير ماليته إسماعيل المفتش تعثرت مصر عام 1876 فى سداد 4 ملايين جنيه مستحقة، واضطر لقبول تسوية فرضتها عليه الحكومتان البريطانية والفرنسية عام 1878، ثم تم عزله ــ بضغوط من الحكومتين ــ من السلطان العثمانى عام 1879، وذلك بعد قيام اسماعيل بعزل الوزارة «الأوروبية» التى فرضتها شروط التسوية.
وفى الفترة المتبقية من الحقبة الملكية لم يكن لحاكم مصر السيادة فى وضع أو تنفيذ سياسات اقتصادية، والتى كانت توضع فى لندن بعد الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882. وكان جل اهتمام الدائنين هو استرداد ديونهم بفوائدها، وهو ما تم خلال الستة عقود التالية على الرغم من التحديات الكبيرة التى مر بها العالم من حربين عالميتين وبينهما الكساد العظيم فى الثلاثينيات فى الولايات المتحدة. فتحول رصيد القرض السالب بـ91 مليون جنيه فى 1879 إلى فائض إيجابى على بريطانيا بـ340 مليون جنيه، بعد الحرب العالمية الثانية.
والحقيقة هى أن ذلك ما كان ليتحقق لولا حرص محمد على ومن بعده حفيده إسماعيل على خلق مصر أخرى بأدوات الدولة الحديثة من إصلاحات إدارية وتشريعية جدبت المستثمرين الوطنيين والأجانب لتحقيق أحلامهم. ونستعرض فيما يلى قائمة بأهم المشروعات الهامة ناتج تلك الحقبة.

ثانيا: مصر الجمهورية 1952ــ 2022
لم يتأخر مجلس قيادة الثورة كثيرا فى إعلانه إطار التوجه الاقتصادى الجديد للدولة، وقد جاء متأثرا بالمد الثورى فى دول وسط أوروبا وروسيا مند بدايات القرن العشرين، والتى استهدفت بصفة أساسية إعادة توزيع الثروات وتحجيم القطاع الخاص.
وتولى الرئيس جمال عبدالناصر الحكم فى 1954 وقد تم تنفيذ بعض القرارات مثل تحديد ملكية الأراضى الزراعية، وتوجست حكومات الغرب من مد تأثير مصر على الدول الأخرى المستعمرة والمستغلة مواردها منها. وواجه عبدالناصر رفضا لطلب مصر تمويل مشروعاتها القومية وأهمها إنشاء السد العالى فجاء قرار تأميم الشركة العالمية لقناة السويس والذى تبعته حرب 1956، ثم توالت سلسلة من التأميمات عام 1960 لما يربو على 200 شركة سواء كانت مملوكة للأجانب أو المصريين ثم دخلت مصر حربين: (اليمن والنكسة)، فى سنوات قليلة وهو ما أنهك الدولة. ويمكن تقدير عدد المهاجرين من الأجانب والمصريين خلال 1956 إلى عام 1965 بـ100 ألف من رواد الأعمال والمهنيين.
عموما، توفى عبدالناصر عام 1970 ومصر مدينة للعالم بحوالى 1300 مليون دولار تمثل ربع الناتج القومى فى هذا العام، وهو رقم معقول جدا فى ظل كل التحديات والحروب، ولكن تبقى المشكلة الحقيقية فى تلك الفترة، هى قضاء الدولة على القطاع الخاص وتحكم الدولة فى كل النشاط الاقتصادى من مصانع وبنوك (تم تأميم البنك الأهلى وبنك مصر والأخير كان مملوكا بالكامل لمصريين)، وشركات تأمين بل والمتاجر وشركات الإنتاج والعرض السينمائى.. إلخ.
يرى د.جلال أمين، وأتفق معه، أن فترة الرئيس محمد أنور السادات وإن شهدت تحولا فى دفة الإدارة الاقتصادية (دون متابعة الخطط التفصيلية اللازمة لتحقيق فعالية التحول)، فإنها لم تشهد سوى عدد محدود من المشروعات على أرض الواقع لا تبرر أبدا القفزة الكبيرة فى مديونية مصر الخارجية، التى تعدت عند وفاة السادات عام 1981 الـ14.3 مليار دولار، أو ما يمثل 141% من الناتج القومى.
فى الثلاثين عاما التالية جاءت فترة حكم الرئيس محمد حسنى مبارك، لتشهد مرة أخرى قفزة فى الدين الخارجى إلى 49 مليار دولار انخفضت إلى 35 مليار دولار عند وفاته، وذلك بعد تنازل عدد من الدول الغربية عن بعض مستحقاتها بقيمة 17 مليار دولار عام 1994، مكافأة لمصر عن دورها فى حرب الخليج. ويمكننا القول بأن التنمية الاقتصادية فى عهد مبارك كانت محدودة، مقارنة بالمديونية المتحققة فى عهده.
استمرت المديونية الخارجية لمصر فى التزايد خلال السنوات الثلاث 2012ــ 2014، ليتسلم الرئيس عبدالفتاح السيسى الحكم والمديونية قد وصلت إلى 46 مليار دولار، تضاعفت 3 مرات تقريبا فى ثمانى سنوات لتصل إلى 156 مليار دولار، تمثل 43% من الناتج القومى عام 2022، وتبلغ تكلفة خدمتها 27 مليار دولار، تمثل 39% من إيراداتها فى هذا العام. كما بلغ عجز الميزان التجارى فى نفس العام، حوالى 30 مليار دولار.
وقد أعطت السياسات الاشتراكية المتأصلة فى المجتمع المصرى، منذ ما يزيد على 55 عاما جموع الشعب شعورا زائفا بالثراء، وهو ما لم يجرؤ أحد من حكام مصر الجمهوريين على نفيها، ومواجهة شعبه بزيف هذا الشعور إلا الرئيس السيسى.
والآن ماذا نحن فاعلون؟
عندما أراد الخديو إسماعيل أن يقفز باقتصاد بلاده تأسيسا على ما بناه جده محمد على باشا، ركز على تقديم كل الحوافز المطلوبة لاجتذاب القطاع الخاص الوطنى قبل الأجنبى، وابتعد عن توريط الدولة بالمساهمة فى مشروعات. وقد جنت مصر ثمار هذه السياسة حتى عام 1960 حين توالت التأميمات.
وأعتقد أن تخفيض مستوى الدين الخارجى بالنصف إلى مستوى 80 مليار دولار، هو ضرورة حتمية لضمان عدم تعثر الدولة. ولا مناص من بيع الكثير من الشركات الأصول المملوكة لكل جهاتها لتحقيق هذا الهدف التكتيكى. ولكنه إجراء يظل محدودا ولا يغنى عن إجراءات استراتيجية أهم، هذا إذا أردنا استثمارا فعليا يعيدنا إلى إنجازات القرن التاسع عشر.
الإصلاح الأهم من وجهة نظرى، هو تقليص المركزية المخيفة فى إتخاذ القرارات ذات الصلة بقطاع الأعمال، وذلك بنزع بعض سلطات الوزارات والهيئات التابعة لها وتفويض القطاع الأهلى (الغرف والاتحادات) بها، على أن تستمر الدولة فى رقابتها على الاتحادات، ولاختصار الوقت يمكن الاستعانة بدول سبقتنا وأهمها وأنجحها ألمانيا لتنفيذ هدا النموذج.
أخيرا فإنه قد يرى لبيع شركات بهذا الحجم (75 مليار دولار) النظر فى تخفيض الضرائب بجميع أنواعها بنسبة 15ــ20%. كذلك من المهم جدا أيضا تقديم ضمانات كافية للمستثمرين بعدم دخول الدولة مجددا كمؤسس لأى شركة تجارية عدا القليل جدا، من الأنشطة الإستراتيجية المعلنة مسبقا.