اخبار المغرب

الدولة الفرنسية تحتاج فتح الأرشيف للتخلص من “مقالب حروب الذاكرة”

قال الأكاديمي يحيى بن الوليد: “حتى الآن ما تزال فرنسا مصرّة على عدم اعتذارها على فظاعات استعمارها لبلدان في مقدّمها الجزائر التي رأى النور فيها بنيامين ستورا، كما أنّها حتى الآن ما تزال مصرّة على عدم الإقرار بما يمكن نعته بأماكن الذاكرة، سواء في الجزائر أو غيرها”.

وتطرق يحيى بن الوليد، في مقال له بعنوان “فرنسا ومقالب حروب الذاكرة”، إلى مجموعة من الجوانب المرتبطة بالاستعمار الفرنسي، موردا: “ثمة شك كبير في أن تفتح فرنسا أرشيف الاستعمار الكبير، وهذا الشك يسود فرنسا ذاتها، أمّا البلدان التي تسارع نحوها فهي لا تتعامل معها إلا كمحطات بنزين لا أكثر”.

هذا نص المقال:

لا تخفى أهمية الذاكرة في الحياة بصفة عامة، ولذلك ليس غريبا أن تشغل بال كبار الفلاسفة أمثال أرسطو وشوبنهور وبرغسون وسارتر وجان لوك وهيوم وراسل وحنة آرندت وبول ريكور… إلخ. ومن بين الخلاصات، هنا، أن الذاكرة هي ذلك “الجسر الذي نحقّـق به استمرارنا عبر الزمن”. و”دور الذاكرة بارز في نشاط المخيلة، وفي الفن، وقبل كل شيء في تقديرنا لأنفسنا”. هذا بالإضافة إلى أن مفهوم الذاكرة هو “ملتقى مفاهيم” (Notion ــ Carrefour) كما يقول المؤرِّخ الفرنسي جاك لوغوف (J. Le Goff) في كتابه “التاريخ والذاكرة” (بالفرنسية، ص105).

وفي العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين، أو القرن الأصعب والأقصر كما نعته المؤرّخ البريطاني الشهير إيريك هوبسباوم (E. Hobsbawm) في كتابه “عصر التطرّفات”، جاءت الذاكرة إلى “المقدمة” لدرجة أنّ البعض أخذ يسأل حول ما إذا كنّا قد انتقلنا ــ رغما عنّا ــ من مفهوم التاريخ إلى مفهوم الذاكرة لدرجة أنّ البعض أخذ أيضا يتحدّث عن أنّنا أصبحنا نعيش “زمن الكل ذاكرة” أو “طغيان الذاكرة” من منظور المؤرّخ الفرنسي بيير نورا (P. Nora) صاحب العمل الأشهر حول “أماكن الذاكرة” (les lieux de mémoire) الذي ظهر في سبعة مجلدات ما بين 1984 و1993. لقد ارتقت الذاكرة إلى مستوى “عمل الذاكرة” (Travail de Mémoire)، ممّا جعلها أبعد ما تكون عن عمليات انتقاء وتلفيق أو امتلاء وتفريغ… إلخ. كما أنها ارتقت إلى مستوى المفهوم التاريخي الذي بموجبه تتجدّد النظرة إلى التاريخ ذاته.

فالذاكرة لا تتموقع في الماضي بمفرده؛ إنما تمتدّ في إطار الحاضر المتدافع إلى المستقبل أيضا. من ثمّ منشأ ما كان قد أسماه الشاعر المغربي الراحل محمد خير الدين، في مجلة “أنفاس” (المغربية) العام 1968، بـ”الذاكرة المستقبلية” (Mémoire-Futur). ثم إن الاستخدام الأمثل للذاكرة هو الذي لا يكتفي باستعادة الماضي حسب مؤرّخ الأفكار تزفتان تودوروف (T. Todorov) في كتابه “الذاكرة والأمل” (تبعا لعنوان الترجمة العربية) الذي يعدّ من أهم الكتب ذات الصلة بموضوع الذاكرة وبما يستلزمه من تصوّرات تمتح من تاريخ الأفكار. والكتاب تطوير لكتاب سابق كان قد نشره تودوروف تحت عنوان “سوء استخدامات الذاكرة” (les Abus De la Mémoire) (2004). ويهمنا أن نشير، هنا، إلى فتح تودوروف لملف الذاكرة بفرنسا حتى وإن كان الكتاب يعنى بالقرن العشرين بعامة أو “القرن المظلم” كما ينعته (ص12)، وحتى وإن كان الكتاب أكثر تشديدا على “الشمولية” التي كانت في أساس فراره ــ ككثير من أمثاله من المفكرين وغيرهم ــ من أوروبا الشرقية ــ نحو فرنسا. الشمولية باعتبارها عالما ومنهجا (ص426).

والكتاب مفيد، في شقّ مهم منه، على مستوى التأكيد على أفكار في حجم فكرة الذاكرة التي تعمل، سواء كانت فردية أو جماعية، على بناء الهوية وتدعيمها، وفكرة “الاستخدام الأمثل للذاكرة الذي يخدم قضية عادلة، وليس الذي يكتفي باستعادة الماضي”… إلخ. في مقابل ذلك، الكتاب ينبّه، من موقع التحليل المتبصّر، إلى مخاطر “سوء استخدام الذاكرة” و”فخ واجب إحياء الذاكرة” و”فقدان الذاكرة”… إلخ. من ثمّ تراجع المستقبل عن أن يكون موجّها لعمل الذاكرة في ظل “الذاكرة المتبدّلة في ساحة المعركة” على نحو ما تحدّث عنها الروائي والفيلسوف التشيكي ميلانو كونديرا في كتابه “لقاء” (ترجمة: إنعام إبراهيم شرف).

إجمالا، قد يبدو التعاطي مع موضوع الذاكرة، بفرنسا، من باب “لحظة الفكر العامة التي يرتبط بها المؤرّخون في كل حقبة” التي تحدّث عنها المؤرّخ مارك بلوخ (M. Bloch) في كتابه “دفاعا عن التاريخ أو مهنة المؤرّخ” (ترجمة: أحمد الشيخ، ص63). في هذا السياق يمكن التشديد على الكتاب الأبرز والأشهر “الذاكرة، التاريخ، النسيان” (2000) الذي نشره صاحبه الفيلسوف بول ريكور (P. Ricœur) عندما كان عمره سبعة وثمانين سنة، أي بعد سفر كبير وتطواف عميق في الكتابة والتأمّل ومراكمة التجارب في الحياة. والكتاب في حجم تجاوز السبعمائة صفحة ومن ثلاثة أجزاء أو كتب كما عدّها البعض. كما أن الكتاب امتداد ــ فكري ــ لعملين سابقين لريكور هما: “الزمن والسرد” (1983 ــ 1985)، و”الذات عينها كآخر” (1990). إجمالا، لقد نوقش الكتاب على نطاق واسع لدرجة أنّ مترجمه إلى العربية، وهو الدكتور جورج زيناتي، عدّه “آخر كتاب فلسفي هام صدر في القرن العشرين”. وتحدّث المؤرّخ والمفكر الفرنسي فرانسوا دوس (F. Doss) عن الكتاب ــ وسياقه المعرفي والفكري ــ في حوار مطوّل أجراه معه الباحث الجزائري محمد شوقي الزين بعنوان “مفاتيح معاصرة في فهم سؤال التاريخ والذاكرة”. وفي هذا الحوار نعت الكتاب بـ”العمل الجبّار”. والكتاب بقدر ما نوقش بقدر ما تمّ انتقاده من قبل أسماء وازنة، بخاصة من ناحية “تثبيت وجهة النظر المسيحية للذات التاريخية”. وفي ضوء انتماء بول ريكور لـ”التقليد الإنساني التأمّلي (Réflexif) الفرنسي العريق”، وردّا على العنف الذي طبع القرن العشرين، يفهم “خطاب الذاكرة العادلة” أو دعوة صاحب الكتاب لـ”ذاكرة عادلة”.

اللافت أن الكتاب كان وراء التدشين لمنظور لم يكن مطروحا بفرنسا قبل الثمانينات، ومردّ ذلك لدخول بول ريكور في حوار مع التاريخ مكسّرا التقليدي الفرنسي الذي “مفاده أن القارة الفلسفية تتعارض تماماً مع قارة المؤرّخين” كما يقول فرانسوا دوس في الحوار السابق. من ثمّ محاورته في الكتاب نفسه لأفكار جاك لوغوف في كتابه “الذاكرة والتاريخ” (1988)، وأفكار بيير نورا في عمله الضخم “أماكن الذاكرة (وقد سلفت الإشارة إليه). غير أن المسألة لا تتوقّف عند تكسير هذا التقليد فقط، إنما تمتد ــ داخل فرنسا ذاتها ــ إلى تكسير صمت من نوع آخر، وذلك من خلال الإسهام في إثارة ملف “حروب الذاكرة” ((Guerre de Mémoires كما تمّ التعبير عنها في نهاية التسعينات من خلال أكثر من عنوان، ضمنها عنوان المؤرّخ بنيامين ستورا (B. Stora) المتخصّص في موضوع الاستعمار والمنطقة المغاربية بصفة عامة.

وحتى الآن، ما تزال فرنسا مصرّة على عدم اعتذارها على فظاعات استعمارها لبلدان في مقدّمها الجزائر التي رأى النور فيها بنيامين ستورا. كما أنّها حتى الآن ما تزال مصرّة على عدم الإقرار بما يمكن نعته بـ”أماكن الذاكرة”، سواء في الجزائر أو غيرها. وما يزال هذا الموقف ماخبار السعوديةا، في سياقات ما بعد الاستعمار، من خلال أشكال من الخوف الرُهابي من الإسلام والعنصرية والإقصاء للآخرين. فالتعاطي مع الذاكرة، بالنسبة لفرنسا، مثل التعاطي مع التاريخ ككل؛ لذلك رأى فيها باحثون “علاقات قوة” تهدف إلى تثبيت “هوية فرنسا” ومجتمع فرنسا الحالي.

وكان تزفتان تودوروف قد ذهب في كتابه “نحن والآخرون” (Nous et les Autres) إلى أنّ المشكل ليس في الاستعمار في حدّ ذاته وليس في العنصرية العرقية في حدّ ذاتها… إنما المشكل في “التبريرات” التي أعطيت لهذين الشكلين؛ ما سمح للاستعمار بالانتشار على نطاق واسع في أرجاء العالم في فترة سابقة، وما سمح للعنصرية بـ”التمظهر” على مستوى السلوك (الأصل الفرنسي، ص14). وتفيد خطاطة “نحن والآخرون” على مستوى توريط الذاكرة في تجديد مشكلات التراتبية العرقية وتمجيد الاستعمار بدلا من الوحدة البشرية التي تقرّ بالتنوّع الإنساني الخلّاق. من ثمّ يتأكد دور الفكر أو الإيديولوجيا أو بالأدق “التاريخ القذر للإيديولوجيا الإمبريالية والمدرسة الاستعمارية”، بتعبير إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية”.

ولعل فيما سلف أفكارا أوّلية بخصوص موضوع حروب الذاكرة المفروضة على فرنسا تحت تأثير تاريخها الكولونيالي ومشكلات الحاضر. وهي مشكلة أوروبا بأكملها “أوروبا الجديدة التي لن يكون لها مكان إلّا في ساحة الذاكرة” كما يقول ميلان كونديرا، لافتا إلى أن ثمة شكا كبيرا في أن تفتح فرنسا أرشيف الاستعمار الكبير؛ وهذا الشك يسود فرنسا ذاتها. أمّا البلدان التي تسارع نحوها فهي لا تتعامل معها إلا كمحطات بنزين لا أكثر؛ ففرنسا الأكثر وعيا بمقالب الذاكرة والاتجار بالذاكرة وما جاورها.