اقتصاد

محمود محيي الدين يكتب: عن الاقتصاد السياسي لاستقلال البنوك المركزية



نشر في:
الجمعة 2 يونيو 2023 – 8:03 م
| آخر تحديث:
الجمعة 2 يونيو 2023 – 8:03 م

لبعض الألفاظ وقع جميل لارتباطها بقيمة من القيم أو بأحداث تاريخية معينة ولكن عند استخدامها كمصطلح قد تُحمّل هذه الألفاظ بأكثر مما تحتمل، وقد يترتب على استخدامها بإفراط خلط فى المفاهيم وتضارب عند التطبيق. ومن هذه الألفاظ ما تجده دارجا عن استقلال البنوك المركزية، بافتراض قد يكون فضفاضا بأنه مفهوم شارح لنفسه، وينطوى ضمنيا على حرية البنك المركزى فى تحديد أهدافه واستخدام ما يراه مناسبا من أدوات لتحقيق هذه الأهداف، بعيدا عن التدخل السياسى المباشر من قِبل الحكومة.
وتنبغى الإشارة إلى ما لموضوع الاستقلال والعلاقة بين البنوك المركزية والسلطات التنفيذية من تاريخ طويل، حيث شهدت العلاقة خلال القرنين الماضيين تراوحا بين التدخل السافر من قِبل الحكومات فى أعمال البنوك المركزية، وإطلاق الحرية لها. ففى القرن التاسع عشر، حيث سادت أفكار الحرية الاقتصادية واستقرت الأسعار وكانت قاعدة الذهب هى القاعدة المحتكم إليها، تجلى استقلال البنوك المركزية، ولكن تلاحق الأزمات الاقتصادية بعد الحرب العالمية الأولى استدعى تدخل الحكومات فى أنشطة البنوك المركزية، ثم ما لبثت أن استرجعت البنوك المركزية قدرا من استقلالها مرة أخرى بعد استقرار الأوضاع الاقتصادية. ولكن ما أعقب الحرب العالمية الثانية من ترويج لوجهات النظر المحبذة للتوسع فى تدخل الدولة نال ذلك، فيما ناله، من استقلال البنوك المركزية، ثم شهد العالم تحولا بدأ فى السبعينيات تجاه قوى السوق وتقييدا لسلطة الحكومة فى تمويل نفقاتها بالتوسع فى عجز الموازنة العامة للدولة، وتعالت معها نداءات داعية إلى جعل البنك المركزى مستقلا فى اتخاذ قراره بعيدا عن تدخل الحكومة؛ حتى لا ينفلت العجز بتمويل تضخمى.
وتنحصر وظائف البنك المركزى التقليدية فى مجموعتين: الأولى تتعلق بإدارة السياسات النقدية بهدف تحقيق الاستقرار النقدى والسيطرة على معدلات التضخم، والأخرى تتعلق بالرقابة والإشراف على البنوك بهدف تحقيق الاستقرار المصرفى. ومن البنوك المركزية ما يُكلف أيضا أهداف التشغيل ودفع النمو الاقتصادى. وتذهب فرضية استقلال البنوك المركزية إلى أنه يمكّنها من أداء هذه الوظائف بشكل أكثر كفاءة، فتتحسن إدارة السياسة النقدية فيما يتعلق بالسيطرة على تضخم الأسعار. كما أن من شأن استقلال البنك المركزى أن يدعم قدراته الإشرافية والرقابية على الوحدات المصرفية.
وتكاد لا تجد خلافا يذكر حول ضرورة استقلال البنك المركزى لضمان تحقيق الرقابة المالية الحصيفة على البنوك؛ وإن توسعت الوظائف الرقابية لبنوك مركزية بعد الأزمة المالية العالمية لتمنحها مسئولية الاستقرار المالى بشكل عام، ولكن الخلاف يتجلى فى الأمور المتعلقة بالسياسات النقدية، وإذا ما كان من الواجب أن تترك إدارة السياسة النقدية للبنك المركزى وحده.
والمدافعون عن استقلال البنك المركزى يستشهدون بأوضاع الدول التى تتمتع فيها البنوك المركزية بصلاحية تمنحها الحرية فى استخدام الأدوات النقدية، مثل سعر الخصم ومعدل الاحتياطى القانونى والتحكم فى المعروض النقدى وغيرها، وما ارتبط بذلك من نجاح كبير فى تحقيق انخفاض مستمر فى معدلات التضخم على النحو الذى قام به البنك المركزى الألمانى، قبل الوحدة النقدية الأوروبية، وبنك نيوزيلندا المركزى والبنك المركزى الأسترالى. بل وذهب بعض المتحمسين لاستقلال البنك المركزى إلى تركيب رقم قياسى يعتمد على مجموعة من الشواهد والأدلة على الاستقلال، مثل الصلاحيات القانونية الممنوحة للبنك المركزى فى تحديد أهدافه واستخدام أدواته، وطبيعة ملكية البنك المركزى وحوكمته وسلطة تعيين محافظه وأعضاء مجلس إدارته والشروط الواجب توافرها فيهم وفترات المجلس، والجهة التى يُسأل أمامها البنك المركزى ويقدم لها تقاريره.
ولكن هل يؤدى استقلال البنوك المركزية، خاصة فى البلدان النامية، إلى تحسن فى أداء السياسة النقدية؟ ويستلزم الرد على هذا التساؤل تناول الإجابة عن ثلاثة محاور:
المحور الأول يرتبط بهدف الاستقلال، فإذا كان هدف الاستقلال هو تخفيض معدلات التضخم، وأن مجرد الاستقلال القانونى للبنك المركزى سوف يؤدى تلقائيا إلى تحقيق هذا الهدف؛ فإن هذا يعدّ اختزالا للحقائق وقفزا لنتائج غير مساندة ببراهين ثابتة، فللتضخم فى الدولة نامية أسباب تتعدى كونه ظاهرة نقدية يمكن القضاء عليها بالتحكم فى عرض النقود والطلب عليها، وبإطلاق الحرية للبنك المركزى فى تحقيق التحكم المنشود، فهناك عوامل هيكلية تدفع بمعدلات التضخم إلى الارتفاع بشكل لن يجدى مجرد التحكم فى عرض النقود معها نفعا، بما يحتم ضرورة التنسيق والتعاون بين الحكومة والبنك المركزى فى تحديد أهداف السياسة النقدية والتنسيق بينها وبين السياسة المالية العامة مع ترك الحرية كاملة للبنك المركزى فى تحديد الأدوات المناسبة لتحقيق أهداف السياسة النقدية.
أما المحور الثانى فيتعلق باعتبار الاستقلال هدفا أم وسيلة، فالمتابع لبعض الكتابات فى هذا الموضوع يرى آراء تكاد تصل إلى أن الاستقلال هدف فى حد ذاته، وكأن البنك المركزى يرزح تحت نير استعمار حكومى غاشم ينبغى القضاء عليه وعلى أعوانه دون تبيان للأسباب. فالاستقلال فى المقام الأول ما هو إلا حماية للبنك المركزى من التدخل السياسى فى قرارات فنية بطبيعتها، وعدم تغليب الأهداف السياسية قصيرة الأجل على السعى إلى تحقيق الاستقرار النقدى والاستقرار المالى كهدفين رئيسيين له؛ فضلا عن عدم منح الحكومة رخصة للاقتراض التلقائى منه دون ضوابط بما يضع قيدا على التوسع التضخمى فى عجز الموازنة العامة للدولة. فاستقلال البنك المركزى ما هو إلا وسيلة من الوسائل المطلوبة لتدعيم مصداقيته التى من شأنها أن تعينه فى تحقيق أهدافه.
أما المحور الثالث فمعنى بالإجابة على سؤال يتعلق بحيثيات استقلال البنك المركزى ومدى مصداقيته فى تحقيق هدف استقرار الأسعار؟ وهو سؤال تُحدد الإجابة عنه الممارسة والتطبيق الفعلى للصلاحيات الواسعة التى يتمتع بها البنك المركزى. وإن كانت من البديهيات أن نؤكد أن من أهمها توفر الكوادر المؤهلة بما يتناسب وطبيعة العمل الحيوى والدقيق الذى تقوم به. علما بأن هذه الكوادر يتطلب تكوينها زمنا طويلا ومجهودا فائقا وتكلفة باهظة، وإن فُقدت يصعب تعويضها.
ومن الناحية العملية، اعتادت البنوك المركزية على استخدام نماذج للتقدير والتنبؤ أفرط فى الاعتماد عليها دون تطوير. كما تعرضت السلطات النقدية فى بلدان متقدمة لمشكلات حادة فى قدرتها على توجيه سياساتها بين البدائل المتاحة بما عرّض مصداقيتها مؤخرا لحرج بالغ فيما يتعلق بكون التضخم ظاهرة مؤقتة عارضة أم أنها مستمرة لفترة تستدعى تدخلا حاسما ومبكرا لاحتوائه. وهو ما لم يتم فى حينه، خاصة بعد ضح تمويل ضخم ورخيص للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التى صاحبت جائحة كورونا. وقد ذكر فى مبررات منح الاستقلال للبنوك المركزية بأن يكون بديلا عما تتعرض له الحكومات من ضغوط قد تستجيب لها فتتوسع فى الإصدار النقدى بزيادة العجز. ولكن ما تعرضت له الاقتصادات من أزمات جعل البنوك المركزية تخوض فى أدوار مباشرة بدعوى مكافحة الأزمات بما يتجاوز دورها «كملجأ أخير»، فصارت «مانحا أول» لائتمان مباشر ميسَّر وغير ميسَّر، وتنخرط فى استجلاب السيولة من النقد الأجنبى بأدوات قصيرة الأجل، وأوعية اقتراض ممتدة الآجال.
وفى كتاب مهم صدر منذ أسابيع للاقتصادى ستيفن كينج بعنوان «نريد التحدث عن التضخم!» يستعرض مخاوف توسع نطاق عمل البنوك المركزية التى تجاوزت الدورين التقليديين للاستقرار النقدى وسلامة الجهاز المصرفى إلى الاستقرار المالى بشكل عام والتشغيل الكامل لقوة العمل والتمويل الأخضر، فضلا عن، فى حالة البنك المركزى الأوروبى، حماية اليورو كمشروع سياسى وليس اقتصاديا فقط. وهى كما يذكر الكاتب أهداف مهمة، ولكن لا توجد ضمانة لتحقيق هذه الأهداف جميعا فى وقت واحد من جهة واحدة.
وباعتبار ما جرى عمليا من توسع فى نطاق نشاط البنوك المركزية ليتداخل مع أعمال الحكومات المركزية، أيضا، أليس فى هذا ما يدعو إلى مراجعة قواعد حوكمة البنوك المركزية فهى لم تعد مستقلة بحسبان ما تقوم به من مكافحة للتضخم وهو أمر كان فى حد ذاته محلا لتساؤل فى سفر ضخم لنائب محافظ بنك إنجلترا الأسبق، بول تكر، عن حدود وممارسات سلطة غير منتخبة بصلاحيات ممتدة. ونتساءل مثلا هل كان تدخل البنوك المركزية الرئيسية فى الأزمة المالية العالمية للصالح العام وعموم الناس أم أنها انحازت، وفقا لأحكام قيمية ارتأتها، لاستنقاذ البنوك من عثراتها وفقا لمقولة ماريو دراجى الشهيرة أثناء توليه مهام البنك المركزى الأوروبى للتصدى للأزمة المالية «مهما أخذت أو كلفت»، ومن الثابت أنها أخذت فعلا ما تجاوز ما كان مقدرا.
ويثير الاقتصادى راجو راجان، محافظ البنك المركزى الهندى، مسألة أخرى حول السياسة النقدية الأمريكية التى حبذت انخفاض أسعار الفائدة لفترة طويلة، ثم تخلت عنها فجأة بعد فترة من سخاء التيسير النقدى، بما أدى إلى فشل أربعة بنوك مؤخرا فى وقت متزامن بسبب استثماراتها طويلة الأجل فى أوعية منخفضة العائد بتمويل من ودائع قصيرة الأجل أغلبها غير مؤمّن عليها. وفى هذا يلوم راجان ما أطلق عليهم «الانفصاليون» فى البنوك المركزية بمعنى هؤلاء الذين يفصلون بين توجه وآثار السياسات النقدية، سواء فى مرحلة التيسير النقدى لدفع النمو، أو تقييد عرض النقود والائتمان فى حالة مكافحة التضخم عن تداعياتها على وظيفة الرقابة المالية وتقلب الحال بين بسط للبنوك المركزية أيديها ثم «إغلال» مقيد لها، بما سببه ذلك من اضطرابات واسعة تجاوز أسواق النقد والمال إلى أوضاع الاقتصاد وأحوال عموم الناس.
يجدد هذا كله الدعوة إلى مراجعة قواعد الحوكمة والصلاحيات الممنوحة للبنوك المركزية ــ كسلطات مستقلة غير منتخبة ــ وحاجتها إلى ضوابط، منها ما جاء فى اقتراح بول تكر لتفعيل حصيف لمبادئ التفويض. ومن هذه المبادئ التوافق على مجال التفويض المحدد، والالتزام بتحقيق الأهداف من التفويض ومصداقيته. ووضع فريق من المفوضين الخبراء الأكْفاء لمتابعة قيام البنوك المركزية بواجباتها وفقا للسلطات الممنوحة لها، والاستقلال العملى والمؤسسى اللذين تتمتع بهما. على ألا تقوم البنوك المركزية بإجراءات من شأنها تجاوز مهامها المحددة، خاصة فيما يتعلق بمجالات يجب أن تكون محل اختيارات عامة، كتلك التى يترتب عليها التزامات تخل عمدا بتوزيع الدخول والثروات والحقوق، أو تؤثر فى موازين القوى السياسية فى المجتمع.