اخبار المغرب

“سوق الصباغين” بمدينة فاس .. ألوان “ماض باذخ” ترسم ملامح مستقبل مجهول

بطريقته المعهودة والمتميزة في الوصف، سلّط الكاتب إدريس الجاي، في مقال له، أضواء ساطعة على سوق الصباغين بمدينة فاس، مذكّرا بالمواد النباتية والحيوانية، التي كان يستعملها الصباغون في الماضي (القرمز وحب العصفر والزعفران والحناء ونبات النيلة…). كما أبرز أهمية مجموعة من الأماكن وعلاقتها بسوق الصباغين، كزنقة الحرارين، وسوق الغزل، أو سوق الحايك، وسوق السلهام، والقطانين، والمرقطان، (ثوبٌ مُرقَّط ملون)، وواد الصوافين، والمجادليين…

هذا نص المقال:

“الآن وصلنا إلى سوق الصباغين. فالشارع بكل تعرجاته وبلاط أحجاره المحدودبة هو ملك لهم. فأول ما اكتشفته أقدامنا هو جدول ماء ملون ينساب من الدلاء المكتنزة. قال المرشد السياحي: “لا عليكم. كل ما هناك ستخضب أحذيتكم ألوانا جميلة” في كل عتمة دكان، أشبه بمغارة. هناك مرجل طافح بفيض الألوان، يغمس فيها الرجال الصوف والحرير، ثم يعصرونه خارجها إلى أن يجف. سيقانهم عارية، وكما السيقان مخضبة بالأصباغ هي كذلك الأيادي التي يعملون بها. أما الأطفال فينظرون، يتعلمون، يساعدون إن استطاعوا”. الكاتبة الأمريكية: انييس نين

إنه سوق حرفة قديمة قدم مدينة فاس نفسها، بل قدم صنعة الملابس التي ابتكرها الإنسان. سوق يتمركز في صدر المدينة يحتل قلب تقاطعاتها التجارية والعمرانية، يقطن بين قنطرتين هامتين، تصلان مدينتي فاس الشرقية والغربية وتمتدان فوق واد المدينة الكبير، الذي كان يمثل في زمن مضى رافدا أساسيا لحياة المدينة، “واد بين المدن”.

فإذا كانت هذه الحرفة قد عرفت انتشارا في أهم المراكز الصناعية العالمية، وذلك منذ عصور قديمة، فقد نصح الفقهاء وأولو الأمر، كما يقول ابن أبي الزرع، أن يكون مكانها، نظرا لما تسببه روائحها الكريهة من ضرر، على أطراف المدن وبعيدا عن الطرقات. غير أن صباغين في فاس: “يوجدون جميعا قرب النهر وفي سوقهم صهريج جميل جدا. تغسل فيه ربطات خيوط الحرير” كما وصفها الوزان في وصف إفريقيا.

إنها كغيرها من الحرف متوقفة على الماء، سواء عند النهر أو العيون كما هو الشأن في فاس أو حتى وسط دكاكين الأسواق كما في مراكش. لقد عرفت هذه المهنة ازدهارا وكثر الطلب عليها، مما جعل ممتهنيها الصباغين لا يقتصرون في مزاولتها على سوقهم هذا وحده، بل امتدت ورشهم ودكاكينهم إلى ما وراء سوقهم، إلى ما حول حمام الصفارين، وذلك في زمنهم الذهبي، حين كانت حاجة حرف أخرى ماسة إلى ابداعاتهم في الألوان، مثل مهنة الحريريين، النساجين، (الدرازة) المشتغلين منهم بالصوف أو بالحرير، الحائكين، الخياطين، وقد بقي دكان واحد شرق هذا الحمام حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي. “كان عدد معاملهم أربعين، أهمها تصل حتى إلى عشرة عمال كلهم فاسيين، إذ كان الأمر هنا يتعلق بعمل دقيق لا يمكن أن يتكيف معه حقا سوى متحضرين من عهد طويل، كان كل من النساجين والحريريين يكلفونهم بصباغة حزم من الصوف، ولا سيما من الحرير، وقلما كانوا يعالجون القطن الذي يستورد من أوروبا مصبوغا. وكانوا يعملون دائما بلا مواد (أي الصوف أو الحرير) لعدم امتلاكم المال الكافي لشراء المادة الأولية وبيعها ثانية وهي مصبوغة. وكانوا يعملون على الماء الساخن في أحواض، أو على البارد في جرار بالنسبة للأعمال المتقنة بكيفية خاصة. منذ ما قبل الحماية، بدؤوا يستعملون مواد صباغة مستوردة من أوروبا”، روجي لوطرنون، “فاس ما قبل الحماية”.

في هذا السوق، الذي لا يوجد إلا في عدوة القرويين وحدها ولا ند له في عدوة الأندلس، كانت تصبغ جميع أنواع خيوط النسيج من صوف وحرير ونسيج صوف رفيع يسمى الشعرة، أو الحبة، للجلابة الفاخرة، وأيضا خيوط القفاطين والصوف الدقيق المستعمل في عقد الزرابي الناعمة والصوف الخشن في زرابي “الحنبل” والصابرة، خيوط نبات الصبار. فهناك ألوان تستوجب الماء الساخن من أجل صباغتها وأخرى الدافئ أو البارد، فلكل لون طريقة معالجة معينة. فالألوان الداكنة والقوية تحتاج فوق الصباغة إلى مرحلة تثبيت اللون من خلال إعادة غليانه، أما الألوان الفاتحة فيكتفى فيها بغسل خيوطها أو أصوافها أو ثوبها بالماء فقط.

لقد كان النسيج هو العامل الأول لوجود حرفة الصباغة، فقد ارتبطت هذه الحرفة بالنسيج ارتباط قويا، بل أصبحت ملازمة له ورهينة به. فمهمة هذه الحرفة زيادة على منح المنسوج حلة ألوان، فهي عملية تثبيت مادة اللون على هذا النسيج حتى يبقى دون تغيير، سواء تعرض النسيج للهواء أو إلى الشمس أو الحرارة أو البرودة. فقد انتشرت هذه الصناعة في العديد من المراكز التجارية والصناعية في العالم، ومن بينه العالم الإسلامي، لكنها توسعت بشكل خاص في المدن الغربية منه، وخاصة في فاس التي كانت حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي سوق تصدير النسيج إلى بعض الدول العربية والساحل الإفريقي. فقد عرفت هذه الصناعة تطورا في استعمال الألوان، نظرا لثراء المنطقة من النباتات وتنوعها المختلف، الذي منح الصباغين إمكانية اكتساب ألوان ثرة من خلال هذا التنوع. فكانت هناك خصوصيات فنية في اكتساب الألوان مثل صبغة “بدائع”؛ فهي لا تكتسب إلا من نباتات اختصت بها الأندلس، وكانت تستعمل خاصة لصباغة الحرير، وأثواب الخز والقز (الحرير الخام) واللبود المغربية غالية الثمن.

فمع شهرتها وغناها في زمن ما والإقبال عليها، عرفت هذه الحرفة الكثير من أساليب الغش والتدليس في استعمال أنواع من المواد الممنوعة للحصول على ألوان معينة، مما دفع الفقهاء إلى التدخل فيها، كتحريم الصباغة بالمواد المحرمة مثل الدم أو البول، وقد تحدثت في هذه الاستعمالات فتاوى ثلة من الفقهاء مثل تقي الدين السبكي من الشافعية، ومن المالكية مثل ابن أبي زيد القرواني وابن الحاج في كتاب المدخل: “و من الغش والخديعة أيضا ما يفعله بعضهم من صبغ الغزل بالحربيث، وهو أن يحرق الغزل ويذهب بقوته ويترك الصبغ بالنيلة وهي نافعة للغزل غير مضرة له. وقد استخدم بعض الصباغين البول في الصباغة، وهو ما يعرف بالأرشيلة، لأنه من النجاسة. بالإضافة إلى أنه يخرق الثوب. كما أن لونه يذهب بعد فترة يسيرة من صباغته به. ولذا، وجب على الصباغ ألا يصبغ بمحرم كالصبغة بالدم مثلا”.

علاوة على ذلك، فقد تفنن بعض الصباغين في صباغة الملابس والمَنْسوجات القديمة وتغيير ملامحها حتى بدت كأنها جديدة، وقد نهى عن ذلك الفقهاء وقيمو الأسواق المحتسبون، لما فيه من أشكال الغش والخداع.

لقد استعمل الصباغون في الماضي وقبل دخول الصباغة الكيماوية الأوروبية إلى مهنتهم، عدة مواد، منها ما هو نباتي ومنها ما هو حيواني، للحصول على ألوان تابثة. فمن المواد النباتية والحيوانية:

القرمز: وهو من المواد الهامة التي استعملت في بلاد الغرب الإسلامي للحصول على اللون الأحمر. والقرمز هو دودة صغيرة جدا تتحول لا حقا إلى حشرة تنمو فوق الأشجار، وخاصة شجر البلوط، وجمعها يحتاج إلى مهارة، وكانت تجمع قبل طلوع الشمس من شهر مارس إلى شهر ماي. تغرق بعد جمعها في الخل لمدة عشر أو اثني عشرة ساعة، وبعدها تجفف في الشمس وتدق حتى تصبح مسحوقا يستعمل لصباغة الحرير والصوف لا في صباغة القطن والكتان. (الكتان من النباتات النسيجية منتشرة في بلاد شمال إفريقيا له ساق بطول ذراع وزهرة زرقاء وبذور حمراء)

حب العصفر: أو الكركومة، الذي تحتاج زراعته إلى مناطق المناخ المعتدل.

الزعفران: وموطنه الأصلي بلاد فارس، وقد نقله العرب إلى الغرب الإسلامي، حيث يحتاج إلى مناطق باردة المناخ مثل مناطق جبال الأطلس، ويستعمل في صباغة الحرير بالدرجة الأولى للحصول على اللون البرتقالي والأصفر الداكن.

الحناء: التي تكثر في المناطق الجنوبية، فزراعتها تتطلب مناخا حارا والكثير من الماء وتستعمل في صباغة كل أنواع النسيج للحصول على اللون الأحمر البني، أو مخلوطة مع غيرها من مواد الصباغة للحصول على ألوان أخرى، كما تستعمل في العلاج والزينة.

نبات النيلة: أدخله العرب هو الآخر من الهند، وتمت زراعته في منطقة سوس. فمن أجل الحصول على نوعية عالية الجودة، يتطلب هذا النبات الحرارة والسقي الجيد. وفي عصر الدولة المرينية (1244 ـ 1465) كانت بلاد المغرب من أكثر البلدان تصديرا للنيلة نظرا لكثرة الطلب عليها في الصباغة.

فقد عرفت هذه المهنة كغيرها من المهن ذات العلاقة بالألوان تعدد مستويات اللون المستعمل، وكذا تنوع مكوناته ودرجاته؛ فاللون الأخضر أو الأحمر مثلا له درجات ما بين شديد الحمرة وخفيفة، وهذه الكثافة أو اليسرة في اللون توجد في كل الألوان. وهناك مواد لا تنبث إلا في البلاد البعيدة مثل العندم والبقم، وهما نوعان من خشب الشجر لا ينبثا إلا في الهند، أو القرمز، من أجل الحصول على اللون الأحمر أو الرخويات البحرية، أو الطرطار. والطرطار هو ما تسرب من غليظ الخمر، وقد نهى الفقهاء عن استعماله في الصباغة. مع ذلك فقد دخل هذا الاسم في القاموس المغربي الدارج للإشارة إلى عملية معينة فاشلة من أولها، يقال: “إذا تلاقى الشب مع الطرطار، تخرج الصباغة هندية”.

كانت الأصواف تستعمل في صباغتها مواد طبيعية، مثل ورق النعناع، قشور الرمان، بالعمان (شقائق النعمان)، فقديما كانت الكميات المنتجة من النسيج قليلة، لكن اليوم لم تعد المواد الطبيعية تكفي لصباغة تلك الكميات الهائلة من منتوج النسيج. فالصباغة الطبيعية لا تكفي لصباغة 100 أو 200 كيلو من الصابرة مثلا. ثم إن الخيوط التي يتم دفعها اليوم إلى الصباغين بقيمة 10 أو 20 كيلو، فقط لأن أصحابها لم يجدوا في السوق اللون الذي يرغبون فيه فيكونوا مضطرين إلى التوجه إلى الصباغ. فالمصانع الكبيرة لا تنتج إلا كميات من 100 كيلو ما فوق. الصباغون اليوم يستعملون في الغالب عشرة ألوان، من خلال استعمالها منفردة أو ممزوجة مع بعضها يحصلون على كل الأوان التي يرغبون في التوصل إليها. فزيادة على الألوان المعروفة مثل الأسود، الأزرق، الأحمر، البني، والوردي، لهم أسماء ألوان أخرى، الخبوري، العكري، المشعول، الفاختي، المنيل، والحجري الخ.

لقد كانت حرفة الصباغة ذات علاقة وثيقة بمهن النسيج، مثلما كان في مدينة فاس. ونظرا لتاريخ هذه المدينة الطويل كمركز إداري وسياسي، فقد تتبوأت مكان صدارة النَّسيج في الغرب الإسلامي، وكانت تعتبر رائدة في هذه الصناعة في هذا الجزء من العالم. فقد كانت متعددة إنتاجات النسيج من الأقمشة الصوفية والحريرية وأثواب الكَتَّان.

كما لعبت أراضيها وثراء مصادرها المائية ومهارة صناعها، وما يوفره محيطها من مواد خام، سواء محلية منها أو المستوردة عن طريق التجارة والزراعة، دورا هاما في جودة الإنتاج. وقد تعاظم الطلب على منتوجاتها من النسيج درجة كبيرة؛ ففي فترة حكم محمد ابن يعقوب ابن يوسف الموحدي، الملقب بالناصر (1199 ـ 1213م) كانت مدينة فاس تتوفر على 3064 ورشة خاصة بالنسيج وطرزه.

ومما يدل على مكانة فاس العالية في هذا المجال شوارعها وأزقتها المتخصصة في الحياكة والنسيج والطرز، التي كانت تحمل، وما زالت إلى اليوم، أسماء هذه الصناعة أو ما له علاقة بها مباشرة، مثل زنقة الحرارين، وسوق الغزل، أو سوق الحايك، وسوق السلهام، والقطانين، والمرقطان، (ثوبٌ مُرقَّط ملون)، وواد الصوافين، والمجادليين، والقيسارية التي كانت ولا يزال جزؤها الأكبر يضم أنواعا مختلفة من إنتاجات النسيج والأثواب. فمن خلال هذه الأعداد الكبيرة من دور وورش النسيج والعدد الهائل من الصناع والحرفيين في هذا الحقل، صارت مركزا هاما من مراكز النسيج ليس في الغرب الإسلامي بل في العالم آنذاك.

ونظرا لاعتماد الدولة المرينية فاس عاصمة لحكمها، فقد أنشئت دور خاصة بالطرز، وأخرى خاصة بالتضريس والعقد ودكاكين للنسيج وصباغة الغزل، وقد استمرت فاس في صدارة مراكز النسيج في الغرب الإسلامي حتى القرن السابع عشر الميلادي، الفترة التي بدأت فيها المنسوجات الأوروبية تغزو هذه البلدان وبلدان إفريقيا عامة.

فمهنة الصباغين كانت واسطة عقد بين منتجي الأثواب ومصنعيها من جهة، ومن جهة أخرى كانت هي التي تعطي لصناعة خيوط الحرير هوية معينة. فحركة تجارة وصناعة الحرير، رغم تجذرها وامتدادها من الصين كأول بلد اكتشف الحرير منذ أزيد من 3000 سنة قبل الميلاد، حيث بقيت هذه الصناعة سرا وحكرا على الصينيين إلى أن اكتشفها الكوريون ثم اليابانيون، وبعدها بلاد فارس حتى جنوب المغرب مرورا بعدد من الدول التي توجد على طول طريق الحرير، لا بد لها من الانتهاء في سوق الصباغين حتى تأخذ لونها قبل شكلها.

فصناعة الحرير العريقة سبق وتفنن فيها الأندلسيون، وخاصة في مدينة غرناطة حيث كانت تصنع أثواب الحرير بأنواع مختلفة أشهرها “الملبَّد” بألوانه الثرية والمختلفة. وقد أشار الحسن الوزان في كتابه “وصف إفريقيا” إلى اهتمام سكان مدينة غرناطة بغرس أشجار التوت لكثرة تربية دود الحرير. فعن طريق الصناع والحرفيين الأندلسيين انتقلت هذه الصناعة إلى المغرب وانتشرت في عدد من المدن المغربية والغرب الإسلامي، مثل سبتة وتطوان وشفشاون ونول لمطة التي يعرفها المؤرخ البكري بأنها: “من بلاد السوس الأقصى بالمغرب، بينها وبين وادي السوس الأقصى ثلاث مراحل، ومنها إلى البحر ثلاثة أيام، وبينها وبين سجلماسة ثلاث عشرة مرحلة”. كما نقل العرب شجرة التوت من المشرق إلى المغرب، وهي الشجرة التي تعيش عليها دودة القز.

لقد كانت النساء الفاسيات وكذا التطوانيات والشفشاونيات، إلى عهد قريب، يولين تربية دودة الحرير أو دودة القز عناية خاصة، إلى درجة أنهن كن يخصصن لها غرفا ذات مناخ مناسب وهادئ حتى تترعرع وتنمو في محيط مريح، فتوضع في صناديق من الورق المقوى وتجعل لهذه الحاويات ثقب للهواء. ومن اهتمام النساء البالغ بدود القز، لا يسمح بدق المهراس في الدور التي تربى فيها، بل حتى خرص أبواب الدور التي يتم فيها تربيتها تغلف بالخرق حتى لا تحدث صوتا مزعجا للدود. وقد كانت هذه الهواية (تربية دود القز) منتشرة حتى بين الأطفال، إذ يشترونها ويوفرون لها أوراق شجر التوت التي يتم تغييرها كل صباح ومساء حتى تتغذى وهي طرية. فقد كانت أشجار التوت منتشرة بأعداد كبيرة، ليس فقط في الحدائق والجنانات، بل حتى في ساحات فاس العمومية، وانتشرت هذه الشجرة ليس في فاس وحدها، بل في كل شمال المغرب، ومن علامات كثرة انتشارها، أن إحدى بوابات مدينة تطوان تحمل اسم “باب التوت”.

كانت النساء فوق هواية تربية دود القز، يستخرجن منها الحرير عن طريق جعلها في الماء وفصل الحرير عن الشرانق. فتربية دود القز أو دود الحرير والتجارة أو الشراكة فيه من المسائل التي تناولها الفقهاء وفصلوا في قوانينها كما جاء في فتاوى الإمام الشاطبي مثلا.

لقد ارتبطت صناعة الحرير وغيرها من أنواع النسيج بمهنة الصباغة، لأن هذه الأخيرة هي التي كانت تعطي للأثواب، حريرية كانت أو صوفية أو غيرها، ألوانها وأشكالها المغرية وجماليتها، فمن دون هذه الألوان تبقى أثواب الحرير رغم غلاء ثمنها وجودة نوعيتها أثوابا باردة عديمة الحيوية والمتعة العينية.

فمع دخول منتوجات النسيج الجاهزة، سواء المحلية أو المستورة، فقدت هذه المهنة التي كانت ذات ارتباط قوي بكل أنواع النسيج حيويتها ولمعانها. ومع غياب صناعة الأغطية الصوفية “البطانية” التي كانت لا غنى عنها في كل بيت، سواء في المدن أو في البوادي، وحلت محلها الأغطية الأوروبية المستوردة أو المصنعة محليا، فقدت هذه المهنة مصدرا هاما من مصادر حركتها الاقتصادية. وأيضا مع انتهاء دور صناعة الحرير المحلية، انتهت أهمية حرفة الصباغين وأصبحت مهددة بالانقراض. فعلى الرغم مما طال سوق الصباغين من ترميم رائع في إطار حملة ترميم معالم مدينة فاس، بقي هذا السوق، الذي كان وحده يضم ثمانية عشر ورشة واليوم لم يبق منها إلا عدد معدود على رؤوس الأصابع، فارقت السوق الحياة ولفض أنفاس مجده القديم الأخيرة. فالصناع الذين انسحبوا من هذه المهنة أو ماتوا، لا يوجد لهم خلف. حيث أصبحت جدران هذا السوق وأبوابه وفضاؤه، التي كانت تزينها في زمن مضى وفرة وثراء أصناف خيوط الحرير والصوف والصبار وكأنها ثريات، خالية تلبدها خرق الملابس البالية وتضفي عليها مسحة الاحتضار.