اخبار فلسطين

مهند” ختم ورده الأخير بالدم و”خالد” رد دينينْ للاحتلال بقدم مصابة

نابلس خاص قدس الإخبارية: بعينين واسعتين اتسعتا لحب فلسطين قنصا منهما الشهادة وهما يصوبان سلاحهما في صدور المستوطنين وجنود جيش الاحتلال، وابتسامة تضيء ملامحهما وينعكس ضوء القمر منهما، ولحية خفيفة ووجه مدور ونفس لون الشعر الأسود المائل، تشاركا مهند شحادة وخالد صباح بالشكل كما تشاركا بالمبادئ التي آمنا بها، وبالشجاعة والإقدام، بتنفيذ عملية هزت دولة الاحتلال، وصفات كثيرة أبرزها “الخلق والمحافظة على الصلاة وحفظ كتاب الله والإصلاح الاجتماعي وبر الوالدين”.

وكأنَّ (كنفاني) تغنى بهما حين قال “أموت وسلاحي بيدي، لا أحيا وسلاحي بيد عدوي”، فسالتْ دماؤهما لأجل تعبيد طريق الحرية كالأسود المغيرة، وقبل ذلك جمعتهم زنزانة واحدة في سجن “مجدو” قبل ثلاث سنوات، والطريق ذاته، حملا “أمانة الثأر” لشهداء غزة وجنين ونابلس.

خرج  مهند فالح شحادة (26 عامًا) ورفيقه خالد مصطفى صباح (25 عامًا) محملين بمعاناة بلدة عوريف التي لم تسلم يومًا من اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين عليها، ليردوا على سلسلة من الهجمات والاعتداءات الإسرائيلية.

لم يمر أكثر من 24 ساعة على ارتكاب الاحتلال لمجزرة جنين، التي قتل خلالها جنود الاحتلال 7 شهداء بينهم طفلان خلال اقتحام مدينة جنين وأصيب العشرات صباح الاثنين،  حتى استيقظ الإسرائيليون على عملية إطلاق النار في مستوطنة “عيلي” الواقعة بين نابلس ورام الله مساء الثلاثاء الماضي، التي أدت إلى مقتل 4 إسرائيليين وإصابة 4 آخرين بينهم حالة خطرة، نفذها “الشهيدان اللذان ينتميا  لكتائب القسام”، ليوقدا النار التي أشعلها الاحتلال في جنين.

قدم مصابة

بقدمٍ متثاقلة تعرضت للإصابة من الاحتلال الإسرائيلي قبل خمس سنوات لا زال يعاني من آثارها حتى اليوم، شارك خالد صباح مهند بتنفيذ العملية، استشهد الأخير في ساحة المعركة، وانسحب خالد من المكان بعد الإجهاز على كل من فيه وهرب آخرين، وطاردته قوة إسرائيلية خاصة، وأطلقت النار عليه فارتقى شهيدًا.

أمضى مهند يومه الأخير طبيعيًا في بيته، لم يتغير شيء على ملامحه الهادئة وابتسامته المعتادة، حتى عندما وصل خبر تنفيذ عملية مقاومة لوالده وانتشار النبأ على كافة مواقع التواصل الاجتماعي، لم يتوقع أن يكون نجله المنفذ، قبل أن يحمل هاتفه ليرن عليه عدة مرات، ومع عدم الرد بدأت احتمالات أن يكون هو المنفذ تتزايد إلا أن رأى صورته، كـ “الأسد يحمل سلاحًا وينفذ إغارته”.

“شهيد بطل، رافع راس الجميع، الله يرضى عليه طول حياته بطل” بعينين محمرتين تملؤهما الدموع ترثي والدته نجلها الحافظ للقرآن الكريم، والأسير المحرر الذي ختم ورده الأخير بالدم.

أمَّ مهند بالمصلين قبل تنفيذه العملية، “ظل ربع ساعة وهو ساجدٌ” تردف أمه بقلب مقهور، بينما نقل والده عن حوارٍ دار بينه وبين ضابط الاحتلال، مليء بندم الأخير على موافقة الاحتلال لنجله بالذهاب لأداء مناسك “العمرة”، يزيح والده الستار عن كواليسه: “قال لي الضابط: سمحناله يروح على العمرة، رجع وقتل “ستة أربعة مستوطنين واثنين من الجنود” وهددني بهدم البيت” علما أن الاحتلال اعترف بمقتل أربعة فقط.

بالرغم من سيرة شقيقه المليئة بمواقف وطنية مشهود، لكن تنفيذ “العملية” كان آخر ما توقعه شقيقه مرسيل شحادة، تعتلي الصدمة نبرة صوته لـ “شبكة قدس“: “لم يخطر في بالنا الأمر. كانت حياته طبيعية، ولم يظهر أي شيء. شاب هادئ، خلوق، من رواد المساجد لا يؤذي أحدًا”.

كثيرًا ما عرضت العائلة على “مهند” فكرة “الزواج” بعد أن جهزت له شقة “جميلة”، “كان رافض الفكرة وفي كل مرة يقول: “بدري. بعدين. كمان سنتين!” وفق شقيقه.

لم تجمع مهند وشقيقه روابط الدم فقط، بل كان يعمل معه في صيانة معاصر “زيتون” وتركيبها، يستحضر صورة شقيقه الشهيد بصوت مثقل بالحزن: “كنا نخرج صباحًا ونعود في المساء. كان يقول لي: “أنت تريح وأنا بشتغل”، وكان يعود مرهقًا متعبًا للبيت، بالكاد يخرج ساعةً ثم يعود للنوم والانطلاق للعمل في اليوم التالي”.

بين تلك الآلات التي منحته صلابةً، وقوَّت ذراعيه، واشتم بها رائحة الزيتون، ابتعد مهند عن تخصصه الجامعي، فهو خريج كلية الرياضة في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، يعتقد شقيقه أن “شهادة حسن سير وسلوك” التي لا تمنحها السلطة بسهولة لمعارضيها، كانت السبب في عدم حصوله على وظيفة.

“مهند وخالد أصدقاء منذ زمن، كانوا مثل الأخوة، يخرجان معًا، وانسجنا معًا” يتكئ صوت شقيقه على عكاز الصبر في ختام حديثه: “هذا  طريقه الذي اختاره”.

ذكريات الجامعة

“مهند شاب من أروع شباب البلد، كل بلدنا تشهد له في أدبه وأخلاقه، كان يسبق أقرانه بكثير في حياته، لديه رجاحة عقل غير عادية، شاب متزن متحدث لبق محب لأصدقائه وفيّ لأصدقائه بدرجة لا تتخيلها، كانت صداقتنا قوية” بهذا يصف أسيد شحادة لـ “شبكة قدس” صديقه “مهند”.

كان أسيد شاهدًا على تعلق صديقه بأرضه: “كان محبًا لها، مخلصًا لقضيته، فيترك أي نشاط أو أي وقفة أو أي موقف مقابل تقديم أي شيء لوطنه، تجده أول الناس، وأكثر ما كان يؤثر فيه الاعتداءات على الأقصى، لأنه كان من المرابطين في المسجد كل شهر رمضان”.

كثيرة هي المواقف التي جمعت الصديقين، أرفدته الذاكرة بأحدها: “لا أنسى في عيد الأضحى الماضي، أصر على جميع الشباب والأصدقاء نخرج في رحلة ترفيهية على منطقة بجانب القرية تسمى “الفخت” استمتعنا بالشواء والتقاط الصور”، يصفها: “كانت جمعة جميلة وهذه أكثر الأشياء التي كان يحبها”.

لم يتفاجأ أسيد من العملية، فمهند بالنسبة له “قدم روحه لحركته وكتلته الإسلامية التي كان أحد فرسانها بجامعة النجاح منذ زمن” نظرًا لشدة إخلاصه ومن كوادرها الفاعلين، وكان سجنه عام 2020 بسبب انتمائه لحماس ورباطه في الأقصى.

تخرج مهند من جامعة النجاح قبل ست سنوات، لكن ذاكرة زميله آنذاك عبد الله عبيد تعج بالحياة التي سطرها مهند بين أسوار جامعته، بكلمات يملؤها الحزن يقول لـ “شبكة قدس“: “قابلته في آخر فصل ونصف له، كنت أراه يخدم الطلاب في الأنشطة الخدماتية والنقابية لكتله، كان يتصف بالهدوء والطيبة والاتزان، خافض للجناح يحب المزاح، انتماؤه معروف وهو معتقل سياسي سابق وأسير محرر”.

تطل صورة أخرى من حياة الجامعة أمام عيني عبيد، “لم أكن منتميا لنفس فصيله، لكن كنت من الطلاب الذين يتعامل معهم، وأي شيء تطلبه منه، كان يلبي ويضحك ويتعامل بطيبة، كان خدوما بشوش الوجه، بعد ذلك أصبحنا أصدقاءً، نجري لاحتساء القهوة أو نفطر ونجتمع على مائدة الغداء”.

“زوجّته وفرحت فيه، الحمد لله خالد من أحسن شباب البلد” تملأ الدموع عيني والدة خالد صباح وهي ترثي نجلها وتعلن رضاها عنه وتفتقد آثاره التي رحلت من البيت وبقي طيفه يدق نواقيس الحزن في ذاكرتها “كان دائمًا يأتي للبيت وقبل الصعود لشقته يسأل: “بدك شيء يا حجة!؟” وفي الصباح يمر علي ويكرر: “أرضِ يا حجة”.

تنصت “قدس” لصوت أمه في بيت العزاء الذي يضج بالمعزين: “خالد رضي الوالدين والناس. مهما وصفناه فلن نوفيه حقه. أعطاني الله هدية وعشنا وفرحنا بزفافه”.

في حوار أخير بين الأم ونجلها، قال لها ممازحًا: “بدي أبنيلك بيت بالجنة” لم تفه مقصده إلا بعد استشهاده وتنفيذ العملية، تستذكره بحسرة تنطلق من أعماق قلبها: “كنت أبقى أنتظره حتى يعود مساءً من زيارة أصدقائه، ويأتي ويجلس بقربي مبتسمًا ويقول: “قومي يا حجة اسهري معي”.

بنفس الصفات التي امتاز بها مهند شحادة، أيضًا تشارك معه خالد صباح يقول عمه كايد: “هو من الشباب الملتزمين، محبوب لأهل قريته. في يوم الثلاثاء رأيته يصلي الظهر بالمسجد . كل البلد تشهد له، فهو خلوق”.

إصابة واعتقالان

في 11 نوفمبر/ تشرين ثاني 2018، وبينما كان خالد يشارك في زراعة أشتال الزيتون على الأراضي المهددة بالمصادرة خاصة أرض مدرسة قرية “عوريف” الثانوية، تعرض لإصابة وصفت بالخطيرة وكادت أن تبتر، يروي ابن عمه صالح صباح لـ “قدس الإخبارية” أنه عانى من الحصول على تحويلة علاجية بسبب انتمائه السياسي، “لكنه تجاوز المصاعب ووقف على قدميه، وظلت قدمه تؤلمه لآخر يوم، لأن قدمه لم تتماثل للشفاء بنسبة 100%”.

بعد إصابته اعتقل لدى الاحتلال لمدة يقدرها ابن عمه بعام ونصف، وكذلك اعتقلته أجهزة أمن السلطة لمدة أربعة أشهر برفقة نحو 24 شابًا من القرية في قضية “مركز شرطة عوريف” تعرضوا خلالها للتعذيب الشديد، مؤكدًا أن “التهمة كانت زورًا وبهتاتًا”.

وبالرغم من انتهاء اعتقاله، فإن القضية في المحكمة لم تنتهِ، يعلق بتهكم ممزوج بالقهر على جلسة المحاكمة المقرر بعد أشهر “الآن سيتابعون محكمته بالجنة، بمحكمة العدل، وعند الله تجتمع الخصوم”.

على طرف سماعة الهاتف الأخرى، يملأ الفخر صوت صباح: “خالد من المحافظين على الصلاة بالمسجد وخاصة صلاة “الفجر” وكان يحث شباب القرية وحتى الأطفال للصلاة، ويبادر للاتصال بنا”.

“المصلح الاجتماعي” لم يكن مجرد لقب عابر أطلقه عليه، بل دور اجتماعي بارز تحلى به الشاب وعايشه ابن عمه: “إذا رأى متخاصمين كان يصلحهما حتى لو على نفقته الشخصية، وبعد استشهاده عديد من الأشخاص رووا لنا كيف أصلحهم، كان يزور أقربائه ويساعد الجيران والبلد”.

ترك الفقد غصة حزن في قلب ابن عمه: “فراقه صعب، خاصة أننا لم نتوقع أن ينفذ العملية”.

عمل خالد في بيع المواد الغذائية، وكانت مشيته ثقيلة (بها عرجة)، ولم يكن يستطيع أن يعمل أي عمل غيره بسبب الإصابة، وكذلك لم يكن يستطيع الذهاب للصلاة بالأقصى بسبب إصابته التي سببت له ألمًا دائمًا، ولم يستطع الدخول للأقصى بـ “الطرق الالتفافية”.